شكري يدعم دعاية سد النهضة: اعتراف مصري بانتصار إثيوبيا

نسف وزير الخارجية المصري سامح شكري، جميع المساعي المصرية والسودانية السابقة لحث العالم على حمل إثيوبيا على التوصل إلى اتفاق شامل وملزم وعادل على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة قبل الملء الثاني، وذلك بإدلائه، مساء أول من أمس الثلاثاء، بتصريحات خطيرة، هي الأولى من نوعها التي تصدر عن مسؤول مصري، قال فيها إن “مصر لديها ثقة في أنّ الملء الثاني لن يضر بمصالحها المائية، فلدينا رصيد كاف من المياه في خزان السد العالي، ويمكننا التعامل مع الأمر من خلال الإجراءات المحكمة لإدارة مواردنا المائية”. وأضاف أن “الملء الثاني هو إجراء، وأن الفيصل الحقيقي بالنسبة لمصر هو مدى وقوع ضرر على مصر”.

وتتطابق التصريحات الصادمة التي أحدثت ردود فعل سلبية على مواقع التواصل الاجتماعي بين المواطنين المصريين والسودانيين وأثارت انتقادات الخبراء، مع تصريحات الجانب الإثيوبي المتكررة عن استحالة إيقاع ضرر بدولتي المصبّ طوال فترة الملء، وهي التصريحات التي تستخدم دائماً كأداة للتهرب من الضغوط الدولية للتوصل إلى اتفاق. كما تتناقض هذه التصريحات بالكلية مع صيغة الخطاب المصري الموجه من سامح شكري نفسه إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وسكرتيرها العام بشأن سد النهضة أخيراً، والذي حذر فيه من “الإضرار بالأمن والسلم في المنطقة كلها إذا أصرت إثيوبيا على تعنتها والملء الثاني من دون اتفاق كامل مع دولتي المصب”، متهماً أديس أبابا بـ”التسبب في أضرار استراتيجية جسيمة بحياة الشعبين المصري والسوداني”.

تتطابق تصريحات شكري مع تصريحات الجانب الإثيوبي عن استحالة إيقاع ضرر بدولتي المصب طوال فترة الملء

وعلى الرغم من أن هذا الخطاب وغيره من البيانات المصرية التي صدرت خلال الشهرين الماضيين، وصولاً إلى ما دار في لقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالمبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، في 5 ماي  الحالي، أكدت جميعها رغبة القاهرة في الالتزام بالمسار التفاوضي لأبعد ما يمكن الوصول إليه، تأكيداً على تراجع النظام عن التلويح بالتدخل العسكري لحل الأزمة، واستمراراً للرهان على ضرورة تدخل القوى العظمى، وبالأخص أميركا والاتحاد الأوروبي والصين، فإنّ مسألة الملء الثاني من دون اتفاق ظلّت هي الخط الأحمر للتحرك المصري. وهو الأمر الذي غيرته تصريحات شكري، أول من أمس، ليصبح الملء الثاني “مجرد إجراء” لا يجب أن يقلق المصريين.

ويكرس هذا التصريح الصادم السياسة المصرية المتراخية في التعامل مع الأزمة، ويؤكد ما نشرته “العربي الجديد” على مدار ثلاثة أشهر، عن كون الملء الثاني للسد أمراً واقعاً، وقاب قوسين أو أدنى، سواء توصلت الدول الثلاث إلى اتفاق دائم أو مؤقت من عدمه، وذلك ارتباطاً بالعديد من التجهيزات الفنية الخاصة بإثيوبيا، والظروف المناخية التي ربما تؤدي إلى تبكير الملء الثاني لشهر يونيو/حزيران المقبل، بدلاً من يوليو.

ويمثل هذا التصريح ثالث محطة مهمة يهدي فيها النظام المصري مفتاح الانتصار في هذه المعركة الاستراتيجية إلى إثيوبيا، بعد اتفاق المبادئ المبرم في مارس 2015، والصمت على الملء الأول المنفرد للسد في جويلية 2020.

فمنذ توقيع اتفاق المبادئ (محطة التنازل المصرية الأولى)، لم تقدم إثيوبيا أي تنازل، بل أصبح تكئة تستند إليها لتبرير تمسّكها بالتحكم السيادي في السد. وأدى الاتفاق واقعياً إلى تخلي مصر عن زمام المبادرة، وخسارة العديد من الأوراق التي كانت تلوّح بها سابقاً -وعادت للتهديد بها أخيراً كالحل العسكري- وأهدى إلى إثيوبيا اعترافاً مطلقاً بحقها في إنشاء السد وملئه وتشغيله، وفرصة واسعة للتلاعب السياسي والدبلوماسي والفني، على الرغم من أنّ مصر كانت تسعى للاتفاق بناءً على تصور خاص من السيسي، بأنه سيضمن حق الشعب المصري في الحياة، فإذا به ينقلب لصالح إثيوبيا، التي تتمكن حتى اليوم من استخدامه بصورة مربحة لها.

وأبرز سلبيات اتفاق المبادئ على مصر، أنه حمل اعترافاً مصرياً بحق إثيوبيا في بناء السد، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقر ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها، حال مخالفة الاتفاقات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل وبصفة خاصة عامي 1902 و1993.

وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وتقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات السابقة، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أنّ اتفاق المبادئ الذي أصر السيسي على توقيعه ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية.

يكرس تصريح شكري السياسة المصرية المتراخية في التعامل مع الأزمة

فالمبدأ الخامس من الاتفاق والذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع “الخطوط الإرشادية والقواعد” من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط “إخطار”، وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان. وتستند إثيوبيا للبند الثاني من هذا المبدأ لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها “استرشادية”، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتباعها، فهي بحسب النص “ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”. البند نفسه يحمل نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية، فهو يتحدث عن “الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”، مما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لتبدأ الملء بالفعل بالتوازي مع المناقشات، طالما أن السد لم يكتمل بناؤه حتى الآن.

وسبق أن ادعى وزير الطاقة والمياه الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، أنّ بلاده تنفذ المبدأ الخامس من الاتفاق “بالحرف الواحد”، وأنها أطلعت دولتي المصب على جميع الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن في فبراير/شباط 2020. وأشار إلى أن حالة الجفاف تحديداً تقدر احتماليتها بأقل من أربعة في المائة خلال أول عامين، وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً، وأن إثيوبيا تلتزم بعدم الإضرار بالدولتين في تلك الحالة، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق، هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.

وفي يوليو/تموز الماضي، وبالتزامن مع القمة الأفريقية المصغرة حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، أعلنت أديس أبابا منفردة عن إتمام الملء الأول للسد، معلنة انتصارها عملياً في وجه الجميع، ليطلق المسؤولون الإثيوبيون، بعد القمة بساعات، تدوينات وتغريدات وتصريحات تحتفي بالنتيجة، وبإعلان إنجاز المرحلة الأولى من ملء السد.

وفرضت إثيوبيا كلمتها واتخذت لنفسها حقاً سيادياً بالتصرف والملء، ووضعت مصر والسودان أمام الأمر الواقع، وبات عليهما التعامل مع المستجدات كردة فعل، ولم يعد هناك أي معنى للتصريحات السودانية الروتينية عن رفض التصرفات الأحادية، ولا للبيان المصري الصادر قبل الملء الأول عن “تقديم طلب رسمي للوقوف على حقيقة ملء السد”.

وتتفق آراء مصادر فنية حكومية ودبلوماسية مصرية غاضبة من مستوى إدارة الأزمة قبل الملء الأول والملء الثاني، على أنّ الخطورة الرئيسية من الملء ليست في فداحة الأثر السلبي على مصر من حيث تقليل كميات المياه الواصلة إلى بحيرة ناصر، بل بخروج إثيوبيا منتصرة من المناسبتين، وهو ما يسمح لها بالتجرؤ مستقبلاً على التحكم في مياه النيل من دون ضابط أو رادع، متخذة من سابقة ملئها السد بقرار سيادي حجة للخروج عن أي اتفاق يمكن إبرامه مع مصر والسودان، وإقدامها على تغيير نسب التدفق ومعدلات التشغيل بين فترة وأخرى.

تصريح شكري يمثل ثالث محطة يهدي فيها النظام المصري مفتاح الانتصار إلى إثيوبيا

فضلاً عن ذلك؛ فإنّ تصريحات شكري تصب في صالح استمرار اقتناع الدول الأوروبية والقوى الكبرى بالمصفوفات الإثيوبية التي تزعم عدم إيقاع أي أضرار بمصر في أي مرحلة من ملء وتشغيل السد، على النقيض من المصفوفات والتقارير الفنية المصرية.

وقبل كل هذه الاعتبارات الفنية والبيئية والاقتصادية؛ سيكون لسد النهضة حال تشغيله بمعزل عن الإرادة أو حتى المراقبة المصرية، تأثير خطير على الموقف الاستراتيجي لمصر، بوضعها تحت رحمة إثيوبيا، وهو ما عبر عنه جميع المراقبين وحتى المسؤولون الحكوميون المصريون مراراً.

في السياق، انتقد الخبير المائي عباس شراقي، ضمنياً، تصريحات شكري، وقال في منشور عبر صفحته بموقع “فيسبوك”: “صحيح أن التخزين الثاني لن يعطش مصر أو السودان، ولكن الثمن تحمّله المزارع المصري الذي حددنا له مساحة الأرز ومنعناه من زراعة الموز في بعض الأماكن. كما تحملته بقية الشعب في إنفاق 18 مليار جنيه (مليار و148 مليون دولار) على تبطين الترع، وأكثر من 100 مليار جنيه على معالجة مياه الصرف الزراعي والصحي والصناعي، وأكثر من 100 مليار جنيه على تحلية مياه البحر، وأكثر من مليار جنيه في حفر آبار مياه جوفية وإقامة سدود للاستفادة من مياه الأمطار والسيول، وعشرات المليارات في تنفيذ مشروعات مائية مثل مجموعة القناطر الجديدة، وعدة مليارات أخرى في تطوير الري الحقلي واستخدام طرق الري الحديثة في جميع الأراضي الجديدة، ومشروعات الصوب الزراعية”. وأضاف شراقي: “كل هذا يهدف إلى تعظيم الاستفادة من مواردنا المائية المحدودة وإضافة جزء من المياه في بحيرة ناصر كاحتياطي يحمينا في سنوات جفاف لا يعلم وقتها إلا الله. وعلى الرغم من ما سبق، فإن تخزين حوالي 18.5 مليار متر مكعب و3 مليارات أخرى فقدت في عملية التبخر وتسرب المياه تحت سطح الأرض للخزانات الجوفية، كان كفيلاً بزراعة 3 ملايين فدان من الأرز بعائد تصديري 10 مليارات دولار. هذا ضرر مائي دفعنا ثمنه حتى لا يعطش المواطن المصري”

nexus slot

garansi kekalahan 100