تاريخ التراويح.. أعدم الفاطميون مصليها وعطلت إقامتها الأزمات ومن أئمتها ابن تيمية وابن ميمون اليهودي والصبيان في الحرمين

يورد الرحالة ابن جُبير الكِناني الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- معلومات مدهشة عن إمامة ‏الصبيان للتراويح في الحرم المكي والاحتفالات المصاحبة لها؛ فقد ذكر أنه في “ليلة إحدى وعشرين [من رمضان] خَتم فيها أحد أبناء أهل مكة…؛ فلما فرغوا منها قام الصبي ‏فيهم خطيبا، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله..؛ ثم بعد ذلك ليلة ثلاث ‏وعشرين، وكان المختتِمَ فيها أحدَ أبناء المكيين ذوي اليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة ‏سنة…، وحضر الإمامُ الطفلُ فصلى التراويح وختم، وقد انْحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ‏ونساء، وهو في محرابه”!!

ولم يكن هذا مقتصرا على مكة فحسب؛ بل كان من عادات أهل الحجاز عموما ومصر وعدد من البلدان الاسلامية تشجيع الأطفال على إمامة التراويح، بشرط إتمام أحدهم حفظ القرآن وإكماله اثنتي عشرة سنة ليكون بذلك أهلا لتولي إمامة الصلاة النافلة.

والراصد لإمامة الأطفال سيراها بكل جلاء مؤشرا لطبيعة تعامل المسلمين مع شعيرة صلاة التراويح، حيث لا تُؤتَى باعتبارها صلاة يُتقرَّب بها إلى الله زُلفَى -والحال أنها كذلك حقا- بل ومدخلا للمسرّة وسعادة التلاقي الاجتماعي التي تضفيها الأجواء الرمضانية على كافة العبادات، وأيضا ظرفا مناسبا لتهيئة الأطفال لمهام الكبار. ولذلك اشتهر الكثير من العلماء بأنهم صلَّوْها أئمةً -وهم صغار- بتشجيع من المجتمع وفي صدارته أهلُ العلم، ولعل من أشهرهم في ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) الذي أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتا عشرة سنة 785هـ/1383م‏‏.

بدأ تاريخ تأدية صلاة التراويح جماعةً في المساجد مع الخليفة عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) رضي الله عنه؛ إذ ارتأى أن تكون صلاة جماعية مسجدية بدلا من إقامتها في البيوت، وكان هدفه أن يجمع جماعة المسلمين على قارئ واحد، فعمَّمَ العمل بذلك في بلدان الخلافة. وإذا كان عمر هو أول من اسْتنّ التراويح المسجدية فأضحت بذلك سُنّة حسنة مضت عليها أغلبية المسلمين حتى اليوم؛ فإنه كذلك هو أول من باشر ربطها بأجواء البهجة والزينة والإنارة، حين قام بتعليق المصابيح الرمضانية في المساجد، فصارت بذلك التراويح والأنوار في لقاء واقتران حتى يوم الناس هذا.

جمع الفاروق المسلمين على قارئ واحد بغية الاجتماع والأنس والتآلف، ثم جاء زمن كانت فيه التراويح أحد عناوين الفرقة والتعصب المذهبي، وواقعا يكشف عن مدى تغلغل فيروسات التحلل والتفكك في الجسد الإسلامي. فقد شهد الحرمان المكي والمدني والمسجد الأقصى تعددية متزامنة في صلاة التراويح كان فيها خروج عن مبدأ وحدة المصلين وتكملة صفوف الصلاة، وبدلا من أن تكون جماعة واحدة على قارئ واحد بات لكل مذهب فقهي إمام ولكل طائفة جماعة، رغم التقاء الجميع في أكناف الكعبة وهي رمز وحدتهم، وهذا المسلك يناقض السنة العُمَرية ومقصدها الرامي لإكثار عوامل التوحد والتماسك، فتلك كانت الفكرة الأبرز من وراء إقامة التراويح في المساجد.

وطَوال حقب التاريخ الإسلامي؛ ظلت التراويح ميدانا لإظهار المواهب الممتازة في الأداء الصوتي، لما اعتاده الناس في اختيار أئمتها من انتقاء الأندى صوتا والأتقن في حفظ القرآن الكريم والأدق في فنون تجويده وتلاوته. وحتى اللحظة؛ لا تزال صلاة التراويح هي الفرصة المثلى للتعرف على الأصوات المتميزة عذوبةً في النبرة وجودةً في الأداء.

وقد جاء أئمة التراويح من كل الفئات والخلفيات؛ فكان منهم القراء الكبار وعظماء العلماء، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، بل والسلاطين و‏الفراشون العاملون في المساجد. ومن أشهر أئمة التراويح الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) صاحب التفسير والتاريخ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، فقد جمع هذان الإمامان بين الصوت الحسن وغزارة العلم والإمامة في الدين، وسَجلتْ مهاراتِهما في كل ذلك كُتُبُ التراجم والتاريخ.

وفي هذه المقالة؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر ‏القرآن لما يقترن بها من تلاوة وتدبر للقرآن الكريم، واجتماع للمؤمنين -على اختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- ‏طوال لياليه المباركة في رحاب ومحاريب المساجد العامرة بذكر الله تعالى، فنروي باختصار كيف ‏بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها -عبر قرونه ‏اللاحقة- من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز ‏العبادات (الدين) إلى دائرة العادات ‏‏(التدين)!!

كما سنكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا ‏وسياسيا ‏واجتماعيا، ونعرض لذكر مشاهير من أعلامِ جمْعها أئمةً ومأمومين. ‏وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ‏ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة!!

صور من التاريخ الإسلامي

مبادرة عُمَرية
يلخِّص لنا العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ/1503م) -في كتابه ‘محض الصواب‘- أصلَ نشأة صلاة التراويح في الإسلام ‏بقوله: “لا يتوهَّمْ متوهِّمٌ أن التراويح من وضع عمر (بن الخطاب ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- ولا أنه أول من وضعها، بل كانت ‏موضوعة من زمن النبي ﷺ، ولكن عمر.. أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، ‏فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسُمِّيت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم ‏يستريحون فيها بعد كلّ أربع”.

وقبل ابن المِـبْرد بستة قرون؛ حدد لنا الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) تاريخ صدور أمْر عمر بجمع ‏الناس لصلاة التراويح فقال -في تاريخه- إنه كان في سنة 14هـ/636م “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”.

وقد ‏خصص عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للنساء؛ لكن يبدو أن أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- يشهدن تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر القائل إن “ذَكْوان (أبا عمْرو ت 63هـ/684م) مولى [السيدة أم المؤمنين] عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”؛ كما في رواية الإمام أبي القاسم الأصبهاني الملقب بقوام السُّنة (ت 535هـ/1140م) في ‘سِيَر السلف الصالحين‘.

وحفظت لنا كتب الفقه والتاريخ والتراجم ‏أسماء القُرّاء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قُرّاء الرجال: ‏أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ/644م) الذي “كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات”؛ وفقا لابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘.

ومن قُرّاء الرجال كذلك معاذ بن الحارث ‏الأنصاري (ت 63هـ/684م). وأما قُرَّاء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ/661م) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وكذلك سليمان ابن ‏أبي حَثْمَة القرشي (ت بعد 43هـ/664م)، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ/705م).

أوليات وآراء
ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح استحداثُ استدارة الصفوف حول الكعبة؛ فأبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ/1094م) يروي -في ‘المسالك والممالك‘- عن الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م) أن “أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ/739م)، وكان الناس يقومون في أعلى (= بداية) المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة”.

وقد استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السُّنة- على أنها “سُنّة” لا “فَرْض”، وساقوها مثالا نموذجيا على “البدعة الحسنة” شرعا عند القائلين بها منهم؛ لكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه “لا يجوز ‏تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن ‏التي صارت شعارا… كصلاة العيد”؛ وفقا لخلاصة فقهية قررها الإمام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ‘طبقات الشافعية‘.

كما استحب العلماء -حسب الإمام أبي بكر البيهقي (ت 458هـ/1067م) في ‘شُعَب الإيمان‘- أن “يُزاد في شهر رمضان في أنوار ‏المساجد” بتعليق المصابيح فيها؛ قائلين أيضا إن “أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في ‏التراويح”؛ طبقا لمؤرخ المدينة المنورة نور الدين السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى‘.

وفي ذلك روَى الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه “مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل تـُزْهِر، فقال: نوّر الله على عمر قبره كما نور علينا ‏مساجدنا”!!

ومع أن جماهير المسلمين ساروا على نهج الصحابة في إقامة شعيرة التراويح في رمضان؛ فإنه ‏ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها “بدعة ‏عُمَرية”؛ كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ونسب المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- إلى ‏الفرقة النَّظـّامية من المعتزلة قولها إنه ‏‏”لا تجوز صلاة التراويح”.‏

undefinedأئمة مشاهير
تنوعت الطبقات والفئات الاجتماعية التي جاء منها أئمة التراويح عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ فكان منهم أساطين العلماء والقراء الكبار، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى السلاطين بل و‏الفراشون العاملون في المساجد. فقد تولى إمامتها “شيخ ‏المفسرين” الإمام الطبري، و”شيخ المقرئين” في ‏عصره أبو بكر ابن مجاهد ‏البغدادي (ت 324هـ/936م)، و”شيخ الواعظين” الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م).

ويحكي الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أن ابن مجاهد هذا استمع ليلة إلى صوت معاصره وبلديِّه الطبري -وهو يؤم ‏‏الناس في التراويح بمسجده ببغداد- فقال لأحد طلابه: “ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يُحسن [أن] يقرأ هذه ‏القراءة”!!‏

ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن شيخه المقرئ أبا الفتح الأنصاري المقدسي (ت ‏‏539هـ/1144م) كان “يصلي التراويح في ‏مسجد علي بن الحسن” بدمشق.

وهذا أبو جعفر ابن الفَنَكي ‏الشافعي القرطبي (ت 596هـ/1200م) “كان الناس يتزاحمون على الصلاة ‏خلفه التماسا لبركته ‏واستماعا لحسن صوته، وحين مجاورته بمكة.. كان أحدَ المتناوبين في قراءة التراويح ‏برمضان…، ‏وقراءتُه تُرِقُّ الجماداتِ خشوعًا”؛ حسب ابن جبير الكناني الأندلسي (ت 614هـ/1217م) في كتاب رحلته.‏

nexus slot

garansi kekalahan 100