بقلم مراد أصلان

تتقدم تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان بشكل فعّال، وهي ملتزمةٌ أن تكون لاعباً دولياً على الرغم من ضغوط القوى الغربية.

غالباً ما يستخدم المختصون مجموعة متنوعة من الحقائق الراسخة والمفاهيم النظرية لتوضيح أنماط السياسة الدولية. ونظراً إلى أن هذه الأطر المفاهيمية ليست ثابتة وإنما تخضع للأحداث والظروف المتغيرة، فإنها تعمل على التأثير على العمل الأكاديمي فيما يتعلق بالسياسة الدولية مع مرور الوقت.

بهذا المعنى، قد تكون السياسة الخارجية التركية والسياسة الخارجية تجاه الغرب متجذرة في الأعمال الأكاديمية الحالية للمفكرين المتخصصين. وباعتبارها تفسيرات مفاهيمية، متأثرة بالأحداث المتكررة، فإنها تشكل الروايات السياسية. لقد ظهرت السياسة الخارجية التركية والسياسة التركية تجاه الغرب في سياق بيئة جيوسياسية سريعة التغير.

بنظرة فاحصة، يستحق عالم السياسة الأمريكي، الراحل إيمانويل والرشتاين، أحد أشد منتقدي النخبة العالمية، تقديراً لتحليله وتفسيره لكفاح تركيا من أجل تعزيز مكانتها في الساحة الدولية، والجهود الغربية لعرقلة ذلك.

يشرح والرشتاين “نظرية النظام العالمي” من خلال إضافته المبتكرة لتفسير لينين “الدولة المحيطية والمركزية” للإمبريالية. تزعم النظرية أن “الدول المركزية” تؤسس لسياسة التفوق على “الأطراف المحيطية” وهي المصطلحات التي يستخدمها للإشارة إلى الدول المتقدمة والمتخلفة، بينما تعمل الدول شبه المحيطة كجسر بين الدول المركزية والأطراف.

بالنسبة إلى والرشتاين، لا يمكن أن تكون الدولة شبه المحيطة عضواً في مجتمع الدول المركزية من حيث السيطرة على النظام العالمي. بعبارة أخرى، يدور نادي الدول المركزية حول التوصل إلى إجماع للسيطرة المشتركة على النظام الدولي حيث تخضع الدول شبه المحيطة والمحيطة لهذا النظام.

يمكن تطبيق هذا التفسير على مجموعتي G7 و G20، حيث تمثل المجموعة الأولى الدول المركزية بينما توفر المجموعة الثانية الأساس لالتقاء الدول المركزية والمحيطية.

يجري وضع حد لأدوار الدول شبه المحيطة، ضمن الحدود الإقليمية، من خلال الإجماع الذي تتوصل إليه الدول المركزية في مجموعة G7.

التجربة التركية

الغرب، أو الدول المركزية، تعتبر تركيا دولة شبه محيطية في “النظام العالمي”. بتعبير أدق، تتوقع الدول المركزية أن تعتمد تركيا على “نظامها” المعين من قبلها، وأن تبقى في حالة ترقب للثمار التي قد تُلقى إليها.

توقعاتهم تدور حول عدم استطاعة تركيا تحدي نظامهم بطريقة واضحة وقوية. علاوة على ذلك، أدى تصاعد المشاعر المُعادية للمسلمين بعد 11 سبتمبر/أيلول والعلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وتركيا إلى تعقيد المفروض والمتوقع بين الجانبين.

كان قرار تركيا في 1 مارس/آذار 2003، بعدم السماح للجنود الأمريكيين المتوجهين إلى العراق المرور من الأراضي التركية نقطة تحول حيث أدى إلى معاقبة تركيا لعدم امتثالها لمطالب الولايات المتحدة وجعلها مثالاً للاعتبار.

بالتوازي مع قرار البرلمان، كانت سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان من أجل توسيع قدرة تركيا لتكون قوة إقليمية بمثابة جرس إنذار مقلق للدول المركزية المهيمنة. يذكرنا الاقتصاد المزدهر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأن تركيا المزدهرة يمكن أن تتدخل في القضايا الإقليمية التي قد تضر بمصالح الدول المركزية.

في سياق متصل، بالنسبة إلى الغرب فإنه يفترض بدولة شبه محيطة مثل تركيا أن تمتثل إلى الأوامر المفروضة من قبل الدول المركزية على حد قول الرئيس الأمريكي جو بايدن في اجتماع مع هيئة تحرير نيويورك تايمز.

لقد كان مسار تحقيق هذه الغاية عبر تشجيع الجماعات السياسية الداخلية والوكلاء لتحدي حكومة الرئيس أردوغان.

وفق هذا المعطى، وقعت سلسلة من الأحداث للإطاحة بالحكومة التركية المنتخبة ديمقراطياً والتي كان منها أحداث جيزي بارك عام 2012، والمؤامرات ضد القوات المسلحة التركية من خلال دعاوى Balyoz and Ergenekon القضائية “المعدة”، والمؤامرات عام 2013 ضد أردوغان بقيادة قضاة ومدعين عامين في منظمة غولن الإرهابية، وهجمات عام 2015 واسعة النطاق في مدن تركيا على يد خلايا PKK الإرهابي، وأخيراً محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو من قبل منظمة غولن الإرهابية، والتي فشلت بسبب رفض الناس ومقاومتهم إياها.

بالنسبة إلى الرئيس أردوغان فقد كانت قيادته تتوجه نحو الاستقلال الاستراتيجي من خلال البقاء على قيد الحياة عبر النظام الدولي، الذي يوصف بأنه نظام المساعدة الذاتية. في هذا السياق، توجه الرئيس أردوغان إلى اعتماد سياسة تقوم على جعل تركيا قوة إقليمية مستقلة عن دول المركز، وذلك للتغلب على التحديات الداخلية والخارجية.

في الوقت الذي فرض فيه الغرب أمراً واقعاً يجبر تركيا على قبول طلباته، اتبع الرئيس أردوغان سياسة التوازن الاستراتيجي. إن قضية شرق المتوسط تبرز كمثال مهم لفهم موقف الدول المركزية من الدول شبه المحيطية، أي لفهم موقف الغرب وتركيا.

أبرزَ التصعيد السياسي والعسكري طيلة عام 2019 المصالحَ المتضاربة للطرفين، وكيفية تنافسها في المنطقة الممتدة من قبرص واليونان إلى سوريا مروراً بليبيا.

كان رد الغرب على سياسات حكومة الرئيس أردوغان تطبيقَ عقوبات مخادعة وعلنية على تركيا مع عزل الحكومة التركية عن نصف الكرة الغربي.

بالنسبة إلى تركيا فقد كان ردها المضاد ذا شقين: كان المسار الأول اتباع سياسة خارجية جديدة تتبنى تطبيع العلاقات مع الدول شبه المحيطية الأخرى لمنع انتشار التدخلات الخارجية. في ظل هذا التوجه اكتسبت السياسة الخارجية التركية زخماً جديداً، حيث تنافست وتعاونت مع الآخرين.

الجيش والدفاع: قصص نجاح أولية

بدأت القيادة التركية حملة مساومة دبلوماسية في أروقة واشنطن وبروكسل وموسكو، بينما كانت تواجه عسكرياً مصالح هذه الدول في سوريا وليبيا وكاراباخ.

أما المسار الثاني فكان القضاء على الاعتماد الخارجي على الدول الأخرى. على سبيل المثال، رفضت الولايات المتحدة بيع صواريخ باتريوت للقوات المسلحة التركية خلال فترة التوترات بينها وبين إيران وسوريا.

على إثرها، اشترت تركيا نظام دفاع جوي أكثر كفاءة من روسيا وبدأت محلياً ببرنامج الدفاع الجوي لتصنيع أنظمة الدفاع الجوي قصيرة المدى HISAR A+، ومتوسطة المدى HISAR O، وأنظمة الدفاع الجوي طويلة المدى SIPER.

كان الرد الأمريكي طرد تركيا من برنامج F- 35، على الرغم من كون تركيا أحد الشركاء المؤسسين في البرنامج.

عززت حكومة أردوغان برنامج الطيران التركي بطائرات HURKUS وطائرات HURJET الهجومية الخفيفة ومقاتلات KAAN من الجيل الخامس، هذا فضلاً عن مجموعة واسعة من الذخيرة الدقيقة.

أظهرت البارجة Anadolu Amphibious للجمهور العالمي قدرة تركيا على ممارسة القوة في المناطق النائية المليئة بالأزمات. لقد أثبتت صناعة الدفاع التركية أن تركيا يمكن أن تجد بدائل مصنعة محلياً من خلال الجهود المتفانية للمهندسين الأتراك وذلك للوصول إلى قدرات الدولة الأساسية.

كان الجيش والصناعة الدفاعية من ضمن قصص النجاح الأساسية في صد العقوبات التي فرضتها الدول المركزية، على الرغم من ذلك، يتمثل التحدي الأساسي في تصنيع مثل هذه السلع التركية بتقنية متقدمة لإيجاد موطئ قدم في المنافسة العالمية.

اخذت السيارة الكهربائية المصنعة محلياً TOGG مكانتها في شوارع تركيا، وهي في طريقها على الأرجح لتحل محل العلامات الغربية في صناعة السيارات.

تمضي محطة الطاقة النووية في مدينة مرسين بشكل جيد لتوزيع الطاقة الاقتصادية من حيث التكلفة على المنازل والصناعات التركية. في حين يعمل الغاز الطبيعي، المكتشف في البحر الأسود، الآن على تدفئة منازل المواطنين الأتراك. سيقلل احتياطي النفط الجديد الذي جرى تحديده في جبل Gabar واردات النفط بنسبة 10% سنوياً.

كما منعت سياسة الفائدة المنخفضة التي اتبعتها الحكومة التركية البطالة بعد جائحة Covid-19 في حين عزز سعر الصرف المنخفض الصادرات التركية.

عززت تركيا من وضعها القيادي ضمن النظام الإقليمي الراهن من خلال الانفتاح على الدول الإقليمية المحيطة. بالرغم من كل هذه الإنجازات إلا أنه قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن المكانة العالمية لتركيا. غير أن تركيا تتقدم بخطى حثيثة، وتعبر عن التزامها لأن تكون فاعلاً دولياً.

يُنظر إلى هذا الواقع على أنه خطر على سيادة الدول المركزية، على وجه التحديد تلك التي تقع في جوار تركيا. يعكس نمط تركيا نيتها أن تكون “مستقلة” بدلاً من أن تكون مجرد تابع في النظام العالمي.