الرحيل المر منالساحل .. حصون فرنسا التي تتساقط في افريقيا

خرج آخر جندي فرنسي من النيجر في 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، في حين تخطط فرنسا لإغلاق سفارتها في نيامي “لأجل غير مسمى”، في ظل انعدام خط رجعة في العلاقات المتدهورة بين البلدين بعد انقلاب 26 يوليو/تموز 2023. وتأكدت بذلك أزمة فرنسا في منطقة الساحل وأفريقيا ككل، والتي لم تكن ناجمة عن دومينو الانقلابات التي هزت مواقع نفوذها العسكري والسياسي فحسب، بل في الإسناد الشعبي لهذه الانقلابات المناهضة للمستعمر السابق.

وجاء آخر انقلاب في الغابون ليكشف المعايير المختلفة في تعاطي باريس مع الانقلابات بين الدفاع عن المصالح والانتصار للديمقراطية، وليبرز أيضا محطات ومراحل متباينة في علاقات فرنسا مع مستعمراتها السابقة وأنظمتها بين التبعية والتمرد.

...
...

تجرأ رئيس بوركينا فاسو العسكري الشاب توماس سانكارا (1949-1987) أمام ضيفه الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران قائلا “إن من سمحوا للقاتل بيتر بوتا (رئيس نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا آنذاك) بتدنيس أرض فرنسا برجليه ويديه الملطختين بالدماء هم من يتحملون المسؤولية”، ولم يكن ذلك المسؤول سوى ميتران نفسه.

رد ميتران غاضبًا على سانكارا في ذلك اللقاء على العشاء في العاصمة البوركينية واغادوغو يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1986 قائلًا “دعني أفكر مثلك وأقول ما يجول في خاطري.. أنت رئيس شاب يحاول خدمة شعبه وأنا معجب بذلك، لكن طريقتك حادة وقد ذهبت بعيدا جدا..”.

كان سانكارا -الذي نفذ انقلابا مع مجموعة من رفاقه في 4 أغسطس/آب 1983- مختلفا عن الانقلابيين الآخرين في القارة بأفكاره الثورية وخلفيته الماركسية اللينينية، والشعبية الجارفة التي اكتسبها، ودعوته لقادة دول القارة إلى التخلص من الهيمنة الغربية والإرث الاستعماري، والامتناع عن دفع ديون حقبة الاستعمار؛ “لأن الدول الأفريقية دفعت ضريبة الدم”، كما ذكر في خطابه بمؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي لاحقا) بأديس أبابا في 27 يوليو/تموز 1987.

بعد نحو عام من خطابه أمام ميتران، وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول 1987 اغتيل سانكارا مع 12 من رفاقه بانقلاب دموي نفذه رفيقه وزميله بليز كمباوري (حكم من 1987 إلى 2014) وأخفيت جثته عقودا، واعترفت فرنسا بالمنقلب الجديد رئيسا بعد ساعات، ليصبح مواليا لها، “.

بعدها ظلت مبادئ وأفكار سانكارا خامدة لعقود قبل أن تعود من بوركينا فاسو ذاتها عبر انقلاب جديد لم يخف قادته انحيازهم لأفكار “تشي غيفارا أفريقيا”.

...
...

في القمة الروسية الأفريقية بسان بطرسبورغ يوم 28 يوليو/تموز2023 أعاد قائد انقلاب 23 يناير/كانون الثاني 2022 في بوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري (34 عاما) معجم ومفردات سانكارا نفسها في التحدث باسم الشعوب الأفريقية، فرفض الهيمنة والاستعمار، ودعا إلى الاعتماد على الذات، وإلى القطع مع باريس وأدوات سيطرتها، وردّ الاعتبار إلى مثله الأعلى سانكارا.

وإضافة إلى انقلاب بوركينا فاسو، أتت متتالية الانقلابات بدول الساحل والصحراء في مالي ثم النيجر، وتحالفت ضد التهديدات، ووقّعت اتفاقية للدفاع المشترك تحت اسم “تحالف دول الساحل”، لتستحضر بشكل ما مجموعة أفكار زرعها سانكارا قبل 40 عاما، أهمها رفض الهيمنة الفرنسية . ولم يتردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وصف هذه الظاهرة بـ”وباء الانقلابات”، مؤكدا ما ذكره في مارس/آذار من الغابون عن نهاية ما سماه حقبة “فرنسا الأفريقية”.

عدوى الرفض

ولم تقتصر الانتقادات وموجة الرفض على دول الساحل، بل ظهرت في كلمات بعض الرؤساء الأفارقة على هامش اجتماعات الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قال القائد العسكري لغينيا -المستعمرة الفرنسية السابقة- مامادو دومبويا الذي قاد انقلاب 5 سبتمبر/أيلول2021 “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”.

وانتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد سياسة الغرب -وهو المقرب منهم- اتجاه أفريقيا في كلمته، حين قال “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤه من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستغلال والاستعمار”.

كانت الجزائر أول بلد أفريقي تحتله فرنسا عام 1832، ثم شملت الحماية فالاستعمار المباشر بلدانا أفريقية أخرى في شمال القارة ومنطقة الساحل والصحراء ومنطقة واسعة من غربها ووسطها وجنوبها الشرقي (مدغشقر وجزر القمر)، لكن النفوذ التجاري الفرنسي يعود إلى بدايات القرن الـ17، حين تم إنشاء مراكز تجارية غربي القارة سرعان ما ازداد عددها بتأسيس شركة الهند الشرقية الفرنسية لتتوسع ممتلكات فرنسا في القارة لاحقا على حساب الدولة العثمانية ثم بريطانيا وألمانيا، ووصل مجموع الدول الخاضعة عمليا للاستعمار الفرنسي في القارة إلى 19 دولة.

وُوجِهت فرنسا بانتفاضات وثورات متعددة في معظم الدول التي احتلتها؛ فقمع الاستعمار الفرنسي معظم تلك الثورات بعنف، وارتكب العديد من المجازر الوحشية، ونهب ثروات تلك الدول، وأجبر مئات الآلاف من سكان المستعمرات على المشاركة في حروب فرنسا. ولم تنجح باريس في إحلال الاستعمار الاستيطاني وإخماد الثورات رغم عقود طويلة من الهيمنة العسكرية والاقتصادية والثقافية.

وفي سنة 1946 أسست فرنسا ما عرف بالاتحاد الفرنسي ليحل محل التنظيم الاستعماري القديم، وهو ما سمح للكثير من المستعمرات بالتمثيل في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، لكن ذلك لم يحل دون تصاعد المقاومة بجميع أشكالها مع صعود حركات التحرر وبروز قادتها الكبار، فمنحت فرنسا بعض بلدان شمال أفريقيا الاستقلال عام 1956 (تونس والمغرب)، ثم غينيا عام 1958، وعام 1960 حصلت 14 دولة على استقلالها، ثم استقلت الجزائر عام 1962.

واعتمدت فرنسا في مرحلة ما بعد الاستعمار على ما يشبه الرعاية الأبوية في علاقتها بمعظم الدول الفرنكفونية، مع تنصيب أنظمة مدنية أو عسكرية تخضع لإرادتها وترعى مصالحها، وإزاحة الأنظمة التي ترفض ذلك، مستغلة نفوذها الاقتصادي والمالي والثقافي والإداري الذي تعمق خلال عقود الاستعمار وارتباط هذه الدول العضوي بالمجال الفرنسي.

ويمكن تلخيص أوجه النفوذ الفرنسي فيما يلي:

النفوذ السياسي: دعمت فرنسا الأنظمة التي ترعى مصالحها سواء كانت مدنية أو عسكرية مقابل العديد من الامتيازات والحماية، وإزاحت الأنظمة التي لا تحقق تلك المصالح أو ترفضها، كما جرى لـ أحمد سيكو توري (غينيا) موديبو كيتا (مالي) توماس سانكارا (بوركينا فاسو). وتعاني القارة الأفريقية وخصوصا في المستعمرات الفرنسية السابقة بغياب التداول على السلطة، وبقاء حكامها لفترة طويلة في السلطة وارتفاع معدل أعمارهم، إذ تشير التقديرات إلى أن متوسط أعمار سكان القارة الأفريقية يبلغ 19 عاما، في حين يبلغ متوسط أعمار حكامها 63 عاما.

النفوذ الاقتصادي: مكنت فرنسا سيطرتها عبر الهياكل والتنظيمات الإدارية والمالية الفرنسية التنظيم واللغة والشركات الفرنسية العاملة، التي تشير بعض التقديرات إلى أنها تتجاوز 1100 شركة، وتركزت الهيمنة خصوصا باعتماد عملة الفرنك الأفريقي الذي يُسَكّ في فرنسا ويتداول في 14 دولة، كما تلتزم جميع هذه الدول بالاحتفاظ بنسبة 85% على الأقل من احتياطاتها من العملة الصعبة بالبنك المركزي الفرنسي، ولا تسمح لها فرنسا بالوصول إلى أكثر من 15% من الأموال المودعة سنويا.

النفوذ الثقافي: عملت فرنسا على نشر هيمنة اللغة الفرنسية بوصفها إرثا استعماريا وحاملا ثقافيا، وحاولت تهجين الثقافات والهويات المحلية بنشر الثقافة الفرنكفونية وتكثيف منح ومساعدات التعليم الفرنكفوني في المؤسسات فضلا عن المنح الدراسية.

النفوذ العسكري: تم ذلك من خلال تكوين الجيوش ذاتها ونخبها وقادتها، وتكثيف برامج التدريب والمناورات المشتركة، والبعثات العسكرية، واعتماد الأسلحة الفرنسية والمساعدات العسكرية، واتفاقيات الحماية الأمنية والدفاع المشترك وخصوصا تنفيذ العمليات العسكرية الخاصة، وتركيز القواعد العسكرية المنتشرة حاليا في 7 بلدان حاليا، بعد أن خسرت فرنسا لقواعدها في بوركينا فاسو عام 2021 ومالي عام 2022.

الحماية ومكافحة الإرهاب: بمقتضى اتفاقيات دفاع ثنائية أو بدعوى حماية السكان تدخلت فرنسا في البلدان الأفريقية 40 مرة خلال الخمسين عاما الماضية، أي منذ استقلال هذه الدول عنها، وشنّت 7 عمليات عسكرية خلال السنوات العشر الماضية.

Cameroon

 

تقع منطقة الساحل جنوب دول المغرب العربي وتمتدّ من المحيط الأطلسي إلى القرن الأفريقي (المحيط الهندي) وهي منطقة غنية بالمعادن حاولت قوى خارجية عديدة استغلالها. ومع أنّها منطقة غنية بالموارد، يعاني سكّانها أعلى معدلات الفقر في العالم.

وخلال العقدَين الماضيين، اعتُبرت منطقة الساحل تهديدا أمنيا كبيرا، على المستوى الإقليمي والدولي بسبب فشل دولها في السيطرة على مناطقها الداخلية وانتشار الجماعات المسلحة وعصابات التهريب فيها. وتتميز دول المنطقة بتنوع في الثقافات والقوميات، ويعاني أغلبها من زيادة سكانية كبيرة، ومعدلات فقر عالية، وصراعات داخلية، ونزوحا قسريا، وعدم استقرار سياسي وأمني، ورداءة في الحوكمة، وانقلابات متعاقبة، وتدخلات عسكرية خارجية غير مجدية. وقد أصبحت مركزا لموجات الهجرة ولعمليات التهريب والاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة.

ويبقى الأخطر هو الهاجس الأمني – بوجود تنظيمات جهادية مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركة أنصار الدين، وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، وجماعة “المرابطون”، وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى وغيرها. وقد فشلت العمليات العسكرية الفرنسية والقواعد المنتشرة هناك في اجتثاث هذه الجماعات.

...

وجاءت الانقلابات العسكرية الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو ثم النيجر ومناهضتها الواضحة للوجود الفرنسي -المستعمر السابق- ردَّا على فشل باريس في تحقيق الأهداف الرئيسية من حضورها العسكري سواء بالعمليات العسكرية أو القواعد أو الحضور الاقتصادي.

وينظر العسكريون الجدد إلى الوجود الفرنسي على أنه ترسيخ للنفوذ والهيمنة مغلف بذريعة مكافحة الإرهاب، ويتمحور حول نهب الموارد الطبيعية في المنطقة الغنية بالذهب واليورانيوم والنفط والصخر الزيتي والبوكسيت والزنك وغيرها من المعادن والثروات.

كما اهتزت صورة فرنسا لدى النخب والمجتمعات الأفريقية التي أصبحت مناوئة في معظمها لفرنسا؛ لأنها تراها قوة استعمارية مازالت فاعلة بشكل سلبي في تلك البلدان. وقد جاء الترحيب بالانقلابات العسكرية وإسنادها شعبيا والمظاهرات المناهضة للوجود الفرنسي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وحتى تشاد تأكيدًا لذلك.

إضافة إلى “أشباح” توماس سانكارا ممثلة في الانقلابيين الجدد، الذي يهز النفوذ الفرنسي بشدة في أفريقيا، تلقى باريس في ظل المتغيرات الدولية منافسة كبيرة من الصين وروسيا وتركيا في هذه البلدان على الصعيد الاقتصادي والعسكري، وقد تضافرت هذه العوامل جميعا لتؤكد ما ذهب إليه الرئيس الفرنسي حول نهاية حقبة “أفريقيا الفرنسية”.

الجزيرة نت

تحرير وإشراف: زهير حمداني. طلال مشعطي

الصور والفيديوهات: غيتي – رويترز -الفرنسية – يوتيوب

nexus slot

garansi kekalahan 100