العالم يضيق على إس.رائيل.. هل يشكل الرأي العام قوة تغيير حقيقية؟

يقول الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز، في روايته “قصة مدينتين”، التي تشابكت أحداثها مع أحداث الثورة الفرنسية، أن أيام الثورة كانت خير الأوقات، وأسوأها في الأوان نفسه.

ولا شك أن أيامنا هذه أسوأ الأوقات، فالكوكب تهدده كارثة مناخية، والنيوليبرالية، وإن مُنيت بخيبات كبيرة، فإن أيديولوجيتها ازدادت تأصلاً وسياساتها اشتدت توسعاً. ونحن نُعاين الآن صعود الفاشية في جميع أنحاء العالم، فقد رأيناها من قبل تطل برأسها القبيح في نيبال. وها نحن نشهد إبادتين جماعيتين في الوقت نفسه، إحداهما تجري في ميانمار؛ إذ تستميت النخبة العسكرية على التشبث بعرش السلطة بإعمال القتل العشوائي في المعارضة، التي تسيطر الآن على 60% من البلاد؛ وتدور في الوقت نفسه رحى إبادة جماعية أكبر في غزة، إذ قتل الاحتلال الإسرائيلي  حتى الآن ما يزيد على 28 ألف فلسطيني، 70% منهم من النساء والأطفال. وتعُد إسرائيل العدة الآن لاقتحام مدينة رفح، متوعِّدة بمزيدٍ من المجازر ومزيدٍ من المعاناة.

دولة أخرى تنضم إلى صفوف المعارضين لإسرائيل

جهر رئيس الوزراء البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، بموقفه المعارض للحرب في غزة، واضعاً البرازيل في طليعة الحركة المناهضة لسياسات إسرائيل المسلَّطة على الفلسطينيين. وأعلن الرئيس البرازيلي عن موقفه السياسي خلال القمة السابعة والثلاثين للاتحاد الأفريقي، بوصفِه ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية. ويقول خبراء إن موقف البرازيل ربما يكون له صدى واسع لدى دول الجنوب العالمي، وقد يشجع دولاً أخرى على اتخاذ موقف مناهض للحرب الحالية في الشرق الأوسط.

ربما تكون هذه الخطوة إيذاناً بانضمام الرئيس البرازيلي لولا، ومعه جنوب أفريقيا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، إلى قيادة الحركة المناهضة لهذه الحرب. ولعل ذلك علامة أوضح على أن إسرائيل ما انفكت تخسر الدعم، لما ترتكبه من جرائم بحق الإنسانية.

ولا يمكن التغافل عن أن البرازيل دولة مهمة تروم أن تصبح قوة عالمية، ولديها كل العديد من الشروط اللازمة للقيام بهذا الدور. وهي دولة تدعو إلى التعددية، وتقترح مشروعاً لتغيير النظام الدولي الذي تشكَّل بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت تهيمن عليه الولايات المتحدة وأتباعها الأوروبيون. ومن ثم، فإن البرازيل تندرج بهذا الموقف في سياق أوسع من القوى الإقليمية المعترضة على حالة الفوضى التي يشهدها النظام الدولي.

الرأي العام وفلسطين

واليوم، لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي إحدى أقوى الأدوات التي يستخدمها المواطنون للتأثير في الرأي العام، وتسليط الضوء على ما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي من فظائع لا حصر لها في فلسطين. وفي هذا السياق، تجاوز (المواطنون الصحفيون) وسائل الإعلام التقليدية ووصلوا إلى المواطنين العاديين في جميع أنحاء العالم بتوثيقِهم مختلف أوجه المعاناة في فلسطين. وقد بلغ هذا التأثير من الشدة أن اضطر الرئيس التنفيذي لمنصة تيك توك إلى الإدلاء ببيانٍ يقول فيه إن الأغلبية الكاسحة من مستخدمي تيك توك هم من ينشرون مقاطع الفيديو المؤيدة للفلسطينيين، وأن الأمر لا يرجع إلى خوارزميات المنصة ولا ميولها. وقد برزت كذلك بعض المؤسسات الإخبارية مثل قناة “الجزيرة” القطرية، وقناة TRT World التركية، وRT News الروسية، وغيرها من وسائل الإعلام البديلة، التي لا تتبنى الرؤية الغربية للصراع، إذ وفرت هذه الوسائل خيارات أخرى للجمهور الراغب في متابعة الأخبار المؤيدة للفلسطينيين.

علاوة على ذلك، توغلت آثار ما يحدث في السياسة الداخلية لكثير من البلدان. فعلى سبيل المثال، انخفضت شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن انخفاضاً كبيراً بسبب موقفه من القضية الفلسطينية. ولعل هذه إحدى السوابق التي يكون فيها موقف الرئاسة الأمريكية من قضية سياسة خارجية، لا تمس الجنود الأمريكيين بعلاقة مباشرة، سبباً في انخفاض معدلات التأييد له بهذه الحدة (على الأقل في الأشهر الأولى من الحرب). وتزداد أهمية الأمر لدى الحزب الديمقراطي، لأنهم مقبلون على انتخابات عصيبة في عام 2024، ويتأهَّبون لمواجهة مساعي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من أجل العودة إلى سدة الحكم. وقد أطلق نشطاء في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان وأريزونا ومينيسوتا -التي تضم أعداداً كبيرة من الأمريكيين ذوي الأصول العربية- حملات تدعو إلى عدم التصويت للديمقراطيين، فأدى ذلك بالحزب الديمقراطي إلى المسارعة بترويج تاريخه في مكافحة الإسلاموفوبيا لاستمالة الناخبين المسلمين.

بينما تعرضت تركيا والسعودية كذلك لضغوط شعبية، وتعاملتا مع الأزمة تحت وقع هذا الضغط. فعلى الرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاول التمسك بالحياد وعرض التوسط في حل النزاع، فإن الرأي العام في تركيا والمظاهرات الكبيرة المؤيدة للفلسطينيين، ما لبثت أن دفعته إلى تغيير موقفه، والجهر بإدانة إسرائيل. وقد شهدنا المسار نفسه في مصر والأردن وكثير من الدول العربية والإسلامية في العالم. فعلى سبيل المثال، استدعت البحرين، التي طبَّعت علاقاتها مع إسرائيل عما قريب، سفيرها لدى تل أبيب (وهي خطوة قريبة من قطع العلاقات)، ويشير ذلك إلى تراجع المكاسب السياسية التي حققتها إسرائيل في المنطقة. وقد كشفت استطلاعات الرأي التي يجريها مشروع الباروميتر العربي المقام بالشراكة مع جامعة برنستون الأمريكية، أن الرأي العام في معظم أنحاء العالم العربي قد تزايد دعمه لفلسطين، بل تزايد في بعض الدول تأييد حماس بوصفها حركة مقاومة وتحرر شعبي، ومن أبرز أسباب ذلك ما تعرضه وسائل الإعلام الاجتماعية المنتشرة، والمنافذ الإخبارية المحلية.

هذه العودة البازغة للرأي العام بين قوى التعبئة ذات التأثير المهم، هي أحد العوامل الرئيسية في إرغام الدول الغربية والعربية على تغيير مواقفها إزاء إسرائيل وحيال النزاع. وبطبيعة الحال، فإن هذا العامل ليس المحرك الوحيد لسياسات الدول، لكن لا شك أنه سيكون له تأثير ذو شأن في المستقبل.

ولذلك، فإن إدراك العواقب المستقبلية لنزاعت والحروب في الشرق الأوسط يقتضي تجاوز التقييمات السياسية التقليدية، وإضافة ردود الفعل التي تحركها وسائل التواصل الاجتماعي إلى مركَّب العوامل المؤثرة. فقد بدا خلال العقدين الماضيين أن هناك ركوداً في دعم القضية الفلسطينية، إلا أن ظهور وسائل الإعلام الإخبارية البديلة ووسائل التواصل الاجتماعي كان دافعاً قوياً إلى عودة الدعم للقضية الفلسطينية. ولذلك، سيتعيَّن على قادة الدول أن يضعوا مزاج شعوبهم وآرائهم في الاعتبار عند اتخاذ القرار بشأن التعامل مع النزاعات القادمة في المستقبل، خاصة الحروب ذات الصلة بالاحتلال الإسرائيلي، إذ لا شك أن هذه الحروب من أصعب القضايا التي اضطرت جميع دول المنطقة إلى التعامل معها حتى الآن.

الخلاصة

واقع الأمر أنه لا يمكن للمرء أن تطيب له لحظة واحدة من السعادة الشخصية، وهو يدرك أن مذبحة كبرى تحدث في مكان ما من العالم، فالتعاطف مع معاناة الآخرين هو أساس التضامن الإنساني، وهو أمر تنبع جذوره من اشتراكنا في الإنسانية.

لذا، فإننا لا ننفك نسأل أنفسنا: لماذا تصرّ دول تدعي التحرر على التدمير الكامل لوجود الشعب الفلسطيني؟ لماذا تصرّ الولايات المتحدة على توفير الأسلحة والذخائر التي تجعل هذه الإبادة الجماعية ممكنة؟ وأوروبا، التي أخبرتنا في دول الجنوب العالمي ذات يوم أنها تاج الحضارة، لماذا تعمل على الترويج للهمجية على هذا النحو؟

نعم، إن هذه الأيام هي أسوأ الأوقات، ولكن هل هي خير الأوقات من وجه آخر؟ الرأي في ذلك متروك لكل واحد منا. لكن السؤال العارض للجميع: هل نحن عازمون حقاً على مواجهة التحديات الكبرى لعصرنا؟

nexus slot

garansi kekalahan 100