خُدّام الدولة الذرّيّة: أوبنهايمر والمعضلة الأخلاقية لعلماء القنبلة

نشر هذا المقال بالإنجليزية في 7 جويلية 2000، في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس

كان المردود البلاغيّ من أوّل انفجار ذرّيّ منخفضًا: مُدْخَل واحد فقط في «قاموس أكسفورد للاقتباسات». في الـ16 من تمّوز 1945، عندما انفجرت قنبلة البلوتونيوم في موقع غورنادا ديل مويرتور قرب مدينة ألاموغوردو الواقعة في ولاية نيو مكسيكو، تذكّر روبرت أوبنهايمر، المدير العلميّ لمشروع «لوس ألاموس»، سطرًا من «البهاغافاد غيتا» يرد على لسان الإله الهندوسيّ فيشنو: «الآن أُصبحُ الموت، مدمّر العوالم». قيلت كلمات أخرى في تلك اللحظة تستحقُّ التخليد، اعتبرها أوبنهايمر لاحقًا أفضل ما قيل آنذاك؛ فعندما هدأ الانفجار، التفت كينيشت باينبريدج، الذي كان مسؤولًا عن الاختبار، إلى أوبنهايمر وأعلن قائلًا: «الآن بتنا جميعًا أبناء قحبة».

لكنّ الاختبار بشكل عامّ كان فاشلًا على المستوى البلاغي. بعد أن انتهى الفيزيائيّ صاموئيل أليسون من العدّ التنازليّ: «2، 1، 0، الآن»، علّق جنرال يقف إلى جانبه قائلًا: «يا له من أمر رائع أن تعدّ تنازليًّا في وقت كهذا!». تذكّر أليسون قوله لنفسه: «لا زلتُ حيًّا، لا اشتعال في الغلاف الجوّيّ»، فيما ركض الكيميائيّ جورج كيستياكوفسكي نحو أوبنهايمر مذكّرًا إيّاه برهانٍ بينهما على النتيجة: «أوبي، أنت تدين لي بعشرة دولارات». الجنرال ليسلي غروفز، المشرف العامّ على «مشروع مانهاتن»، أشاد على الفور بالأهمية العسكريّة لما رآه لتوّه: «لا بدّ أنّ الانفجار كان كبيرًا جدًّا… لقد انتهت الحرب».

في الجزء الأكبر، لو قال العلماء والمهندسون أيّ شيء يمكن فهمه في لحظة انفجار القنبلة، فقد كان تعجّبًا من نوع «ربّاه»، و«يا للهول»، وما شاكل. كان البعض منشغلًا بحساب أبعاد الانفجار عن أن يقول أيّ شيء؛ فيما كان آخرون مشدوهين من الضوء، واللون، والصوت. كتب الفيزيائيّ إد مكميلان لاحقًا: «ردّ فعل المتفرّجين الفوريّ كان شعورًا بالرهبة أكثر من الحماس، بعد مرور بضع دقائق صامتة، قال بعض الناس أشياءًا مثل: حسنًا، لقد نجحَتْ». في الواقع، اعتَقَدَ فرانك، شقيق أوبنهايمر، أنّ ذلك ما قاله روبرت فعلًا بمجرّد أن سَمَحَ زوال الرعد الذرّيّ بكلامٍ واضح: «لقد نَجَحَتْ».

يبدو ذلك منطقيًّا؛ فقد أمضى العلماء والمهندسون عامين وهم يحاولون صناعة قنبلة ذرّيّة ناجحة وكان الاختبار لفحص ما إن كانوا قد حققوا ذلك. قد يتوقّع المرء، بفضل الحكمة بأثر رجعي، فيضًا من التأمّلات المعذّبة في عواقب ما فعلوه، لكنّ الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لغالبيّتهم؛ فقد أتت التأمّلات السياسيّة والأخلاقيّة لاحقًا، هذا إن ظهرت على الإطلاق. عانى أوبنهايمر علنًا أكثر من أيّ شخص آخر؛ فالفيزيائيّون، كما يرد في اعترافه الشهير: «قد عَرَفوا الخطيئة، وهذه معرفة لا يمكنهم أبدًا خسارتها». وقد أصرّ، معارضًا زملاءه من العلماء، على استخدام القنبلة ضدّ أهدافٍ مدنيّة يابانيّة، لكن، وبعد عدّة أشهر من هيروشيما وناغازاكي، قال للرئيس الأمريكيّ الأسبق هاري ترومان: «أشعر أنّ أيدينا ملطّخة بالدماء»، «لا تهتمّ لذلك»، ردّ ترومان وأكمل: «سيزول كل شيء بالغسيل»، وعندئذ أمَرَ الرئيس ترومان ملازميه العسكريّين: «لا تدعوا ذلك الطفل الباكي يدخل إلى هنا مرّة أخرى».

استمرّت معاناة أوبنهايمر حتّى نهاية حياته، وتركّز بعضها حول سؤال لماذا لم يكن هناك غير القليل من المعاناة في ذلك الوقت. في عام 1954، اعترف قائلًا: «عندما ترى شيئًا جميلًا على المستوى التقني، تفعله على الفور، وبعد أن تنتهي من صناعته وتحظى بنجاحك التقنيّ، يبدأ نقاش ماذا ستفعل بهِ، هكذا كان الأمر مع القنبلة الذرّيّة».

يهتمّ كلّ من سيلفان شْوِبير وماري بالِفسكي بالفجوة بين المُثُلْ الأخلاقيّة والواقع الأخلاقيّ في أوساط العلماء الّذين أتوا بالعصر الذرّيّ إلى الوجود وعاشوا تداعياته في عالم ما بعد الحرب. كلاهُما عالمان أخلاقيّان وكلاهما لديهما أسباب شخصيّة لبحثيهما. كان شويبر فيزيائيًّا أصبح مؤرّخًا للعلم، وقد دَرَسَ في الخمسينيات في «جامعة كورنيل» رفقة هانز بيتّه الّذي كان مدير القسم النظريّ في «مشروع لوس ألاموس» خلال الحرب. يعدّ كتابه «في ظلّ القنبلة»، جزءًا من سيرة ذاتيّة أكبر لمعلّمه يعمل على كتابتها. الكتاب مديح مفصّل لـ«نزاهة» بيتّه في التعامل مع التشابكات بين العلم والجيش بعد الحرب وتوتّرات حقبة مكارثي المحيطة بالعلم والسياسة، ويقارن بين سلوك بيتّه المثاليّ وغموض أوبنهايمر الأخلاقيّ.

بالنسبة لبالفسكي، فقد كان والدها مهندسًا كهربائيًّا منخفض المستوى في «لوس ألاموس»، وساعد في بناء آلية الصاعق للقنبلة. وقد ساهمت هواجسه اللاحقة بشأن هيروشيما وعمل الأسلحة في تشكيل «إرث ابنته الأخلاقيّ». كتاب «شظايا ذرّيّة» هو مجموعة من المقابلات غير المترابطة مع مَنْ تبقى على قيد الحياة من علماء «مشروع مانهاتن»، يستكشف فيه حساسيّاتهم الأخلاقيّة والسياسيّة خلال فترة «لوس ألاموس» وما بعد ذلك. وما الذي اعتقدوا أنّهم يفعلونه عندما كانوا يبنون القنبلة، وبماذا فكّروا لاحقًا حولها.

كراسي القنبلة

كان تحوّل علماء الذرّة الأمريكيّين، خاصّة الفيزيائيّين، إلى رجالات للدولة، إحدى العواقب الفوريّة لهيروشيما. فقد عَمِلَ «مشروع مانهاتن» على جعل طريق بعضهم نحو السلطة سلسًا. عندما انتهت الحرب، لم تُطِق الأغلبيّة منهم الانتظار قبل العودة إلى الأكاديميا مرّة أخرى، لكن لا شيء بالنسبة لهم سيكون مثلما كان في السابق. اشترت أمريكا القنبلة الذرّيّة بملياريّ دولار، ورأت أنّها صَرَفَتْ الأموال بأفضل طريقة ممكنة. كان علماء «لوس ألاموس» قد وقّعوا عقودًا لبناء بضعة قنابل ذرّيّة، لكنّ الحكومة الآن أصبحت تريد المزيد، وبدأ إدوارد تيلر حملته التحريضيّة لحشد الموارد الهائلة من أجل بناء القنبلة الخارقة؛ القنبلة الهيدروجينيّة. هُزِمَ اليابانيّون، لكنْ نُقل عن الجنرال غروفز أنه صرّح في آذار 1944 أنّ الغاية الحقيقيّة من وراء القنبلة كانت إخضاع السوفييت، وفي عام 1954 عاد ليكرّر هذا الادّعاء مرّة أخرى في العلن. جلبت الحرب الباردة ثروات هائلة على الفيزيائيّين الأمريكيّين، لكن بالنسبة لبعضهم، فقد شكّلت أيضًا معضلة أخلاقيّة وسياسيّة.

رغم عودة أوبنهايمر إلى موقعه الأكاديميّ بعد أشهر قليلة من هيروشيما، إلّا أنّ دوره كمستشار حكوميّ في أبحاث الأسلحة كان قد بدأ لتوّه. فقد أصبح جزءًا من لجان وزارة الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون)، وأصبح رئيسًا للجنة الاستشاريّة العامّة لهيئة الطاقة الذرّيّة (GAC)، الّتي أوصت بالمسار الّذي يجب أن تسلكه أبحاث الأسلحة النوويّة. لهذا السبب، جزئيًّا، أي موقع أوبنهايمر الداخليّ المُساوِمْ، يصف شويبر بيتّه بالمتفوّق أخلاقيًّا على أوبنهايمر. فقد عُيِّنَ الحرّاس أمام مكتبه في «معهد برينستون للدراسات المتطوّرة»، وعندما كان يتلقّى اتّصالًا يتضمّن مسائل سرّيّة، كان يُطلب من زوّاره مغادرة الغرفة. كان استعراضًا للسلطة وللامتياز بدا أنّ أوبنهايمر قد استمتع به جدًّا، حتّى زواله. وعلى النقيض، كان انخراط بيتّه في عمل الأسلحة الحكوميّ متقطّعًا ومتعرّجًا؛ فعلى عكس مديره في «لوس ألاموس»، حافظ بيتّه على التزامه بالبحث الأصليّ، وذلك ما زوّده، كما يقول شويبر في أربعة مواضع، بـ«مرساة نزاهته».

كان تحوّل علماء الذرّة الأمريكيّين، خاصّة الفيزيائيّين، إلى رجالات للدولة، إحدى العواقب الفوريّة لهيروشيما. فقد عَمِلَ «مشروع مانهاتن» على جعل طريق بعضهم نحو السلطة سلسًا.

 

رغم تفضيل شويبر الواضح لبيتّه على أوبنهايمر، إلّا أنّه من الأدق اعتبار الاختلافات الأخلاقيّة بينهما ظلالًا متلاصقة من اللون الرماديّ. إذ عارضت اللجنة الاستشاريّة الحكوميّة (GAC) الّتي ينتمي إليها أوبنهايمر برنامجًا عاجلًا لتطوير القنبلة الهيدروجينيّة، ولكن ليس القنبلة في حدّ ذاتها، وبسبب هذه المعارضة، انْعَقَدَ ما سُمِّي بذكاء بـ«المجلس الرماديّ» عام 1954، لسحب تصريحه الأمنيّ. وبعد قرار ترومان عام 1950 بالمضيّ قدمًا في البرنامج العاجل، مَنَعَتْ اللوائح التنظيميّة أوبنهايمر من الحديث علنًا عن الموضوع، وقد تسبّب له هذا الصمت بـ«ألم عميق»: «ما الّذي نفعله بحضارة لطالما اعتبرَتْ الأخلاق جزءًا أساسيًّا من حياة الإنسان ولم تكن قادرة على الحديث عن قتل الجميع تقريبًا، إلّا عبر مصطلحات نظريّة اللعبة والتحوّط؟».

في ذلك الوقت، كان بيتّه مجرّد مستشار في «لوس ألاموس» ويمكنه قول ما يؤمنِ به وقد فَعَلْ: «لم تعد القنبلة سلاحًا حربيًّا، بل وسيلة لإبادة أمم بأكملها. إنّ استخدامها سيكون خيانة لكلّ المعايير الأخلاقيّة وللحضارة المسيحيّة نفسها». وستكون، على حدّ وصفه، صناعة سلاح انشطاريّ «خطأ مرعبًا». ومع ذلك، سيكون قادرًا لاحقًا على التغلّب على مخاوفه هذه إلى درجة أن يعمل بشكل مكثّف على تطوير هذا السلاح نفسه، مبرّرًا موقعه بالقول إنّه لو كان ممكنًا إنتاج هكذا أسلحة، فالسوفييت أيضًا سيكونون قادرين على الحصول عليهم. كان يجب الحفاظ على ميزان الرعب. عمل الأسلحة في زمن الحرب يختلفُ في وجهة نظر بيتّه، أخلاقيًّا، عنه في زمن السلم، وقد ساعده اندلاع الحرب الكوريّة على تغيير رأيه.

لقد كان عملًا تولّاه -كما يقول- على أمل ألّا يكون إنجازه ممكنًا؛ الادّعاء الّذي يجده زميله في «مشروع مانهاتن»، الفيزيائيّ هيربرت يورك، «ساذجًا بعض الشيء». وعلى أيّ حال، «لو لم أعمَلْ على القنبلة لفعل شخصًا آخر»، إضافة إلى الشعور المتكرّر بين علماء الذرّة من ذوي الحساسيّة الأخلاقيّة: «لو كنت ما أزال قريبًا من «لوس ألاموس»، لكنت ما زلت أدعو لنزع السلاح». كتب بيتّه بعد عدّة أعوامٍ أنّ هذا التبرير «بدا منطقيًّا تمامًا»، لكن «أحيانًا، أتمنّى لو كنتُ مثاليًّا أكثر ثباتًا (..) لا زلت أشعر أنّني فعلت شيئًا خاطئًا، لكنّني فعلته».

وبالمثل، ورغم محاولة شوبير تحسين صورة ردّ بيتّه على الهجمات المكارثيّة على الأكاديميّين اليساريّين العالميّين ومناصري السلم، لم يخرج أيّ عالمٍ كان له الوزن اللازم لمجابهة هذه الهجمات بسمعة نظيفة. أوبنهايمر، الّذي كان من الواضح أنّه يحاول إنقاذ نفسه، أدان طلّابه من طلبة الدراسات العليا، ما أثار استياء زملائه السابقين في «لوس ألاموس»، ومن بينهم بيتّه. عندما تعرّض بيتّه نفسه للاختبار من خلال الاعتداء على زميله في «جامعة كورنيل»، فيليب موريسون، أسرع للدفاع عن موريسون، لكن، ربّما كان من الأهون على بيتّه أن يواجه لجنة تحقيق جامعيّة من أن يواجه أوبنهايمر لجنة مجلس النوّاب الهائجة المختصّة في الأنشطة غير الأمريكيّة. وفي حين أنّ دفاع بيتّه عن زميله كان مفعمًا بالحيويّة والفعاليّة، إلّا أنّه لم يكن خاليًا من الشوائب؛ فقد أخبر رئيس «كورنيل» بالإنابة أنّه كان «منزعجًا» من سلوك موريسون الخيريّ فيما يتعلّق بإجراءات نزع السلاح الّتي يفضّلها الاتّحاد السوفييتيّ، ويتّفق مع إدارة الجامعة في وضع قيودٍ على تصريحاته السياسيّة.

أوبنهايمر والرئيس الأمريكي هاري ترومان.

العلماء الوَعَظة

نتيجةٌ أخرى لهيروشيما كانت تحوّل بعض علماء «مشروع مانهاتن» إلى علماء أخلاقيّين عموميّين، مع كلّ ما رافق ذلك من ضغوط على أدوارهم كخدّام للدولة الذرّيّة. كانت الدوافع وراء وعظهم الأخلاقيّ شخصيّة وتقنيّة؛ أوّلًا، شعورهم أنّهم يمتلكون معرفة خاصّة بالأسلحة الّتي صنعوها، ما الّذي يمكنها فعله، وما الّذي كان من المحتمل أن يأتي لاحقًا وما الآثار المترتّبة على هذه الأسلحة في كلّ من البنى السياسيّة والاستراتيجيّات العسكريّة. وخوفًا من أنّ العامّة، وأسيادهم من السياسيّين، قد فَهِموا الواقع الجديد خطأً أو لم يفهموه أساسًا، أخذ بعض العلماء على عاتقهم مهمّة الوعظ الأخلاقيّ، لا حول ما نفعله في عالم الأسلحة النوويّة فحسب، بل حول طبيعة الفعل الأخلاقيّ نفسه في هكذا عالم. ثانيًا، فقد جلبوا هذه الأسلحة المرعبة إلى الوجود، وبينما لم يصارع بعضهم أزماتٍ ضميريّة، إلّا أنّ آخرين قد مرّوا بذلك. لقد أرادوا أن يقول علنًا لماذا فعلوا ما فعلوه، ولماذا كان ذلك صائبًا، أو على الأقلّ، قابلًا للتبرير.

لإيمانه، الّذي شاركه فيه الكثيرون ممَنْ عَمِلوا في «لوس ألاموس»، أنّ القنبلة قد بُنِيَتْ لتنقذ الحضارة الغربيّة وقيم التنوير من النازيّة، استصعب أوبنهايمر الإقرار بالتهديدات الّتي شكّلها العِلْمُ المنتصر على القيم ذاتها. وُلِدَ أوبنهايمر في جيل علميّ تشارك الإيمان نفسه القائل -كما كتب شويبر- إنّ «المعرفة العلميّة خيّرة ولاسياسيّة، ويجب أن تُشارَكَ وتكون مفتوحة للجميع، وأنّها ستقود إلى التقدّم»، لكنّ العلماء ساهموا في صناعة عالمٍ هزم إيمانهم هذا.

سلَكَ وعظُ أوبنهايمر الأخلاقي مسارًا فلسفيًّا أكثر من الآخرين. كان قلقًا بشأن عواقب ما خلقه العلم على المجتمع المفتوح:

«وُلِدَت القنبلة الذرّية داخل أسلوب حياة استمرّ تعزيزهُ على مدى قرونٍ، تمّ فيه تقليص دور الإكراه لربما بشكل شبه تامّ أكثر من أيّ نشاط بشريّ آخر؛ أسلوب حياة يدين بنجاحه ووجوده نفسه لإمكانيّة النقاش المفتوح والتحقيق الحرّ. في هذا السياق ظهرت القنبلة الذرّية داخل مفارقة غريبة؛ فكانت سرّيّة وأداة إكراه لا مثيل لها». كان قلقًا من التبعات الاجتماعيّة لإيمان في غير محلّه بيقينيّة ونطاق المعرفة العلميّة: «قد لا ينتج سوى نهاية خبيثة عن الاعتقاد المنهجيّ بأنّ كلّ المجتمعات هي مجتمع واحد؛ أنّ كلّ الحقائق هي حقيقة واحدة؛ أنّ كلّ التجارب متوافقة مع الأخرى؛ وأنّ المعرفة الكلّيّة ممكنة».

حذّر أوبنهايمر العامّة من القبول الجبان بما يقدّمه العلماء خارج مجالات خبرتهم: «العلم ليس كلّ حياة العقل، إنّه جزء منها (..) إنّ دراسة الفيزياء، وأعتقد أنّ زملائي من الحقول العلميّة الأخرى سيسمحون لي بالحديث باسمهم أيضًا، لا تصنع فلاسفة ملوكًا. إنّها لم تصنع، حتّى الآن، ملوكًا. ولم يسبق لها تقريبًا أن صَنَعتْ فلاسفة كفوئين».

دوائر التبرير

مات معظم علماء «مشروع مانهاتن»، ومن تبقى منهم في أواخر تسعينياتهم، وقد وُبّخوا أخلاقيًا مرات عدة، ولن يُفاجأوا الآن. إنّ أسلوب بالفسكي جادّ ومراعٍ، وهي لم تنجح في جعل العلماء الّذين قابلتهم يدلون بشيءٍ لم يسبق لهم أن قالوه مرارًا من قبل. في مقابلته الأولى، أعدّ بيتّه ورقتينِ كُتبَتا بخطّ اليد يسرد فيهما الحجج الّتي يرغب بقولها وبالترتيب الّذي يريده. كان قلقًا من حُكم التاريخ عليه ومستعدًّا للمساعدة في كتابته. ومع ذلك، ورغم كلّ سذاجة وتدخّلات بالفسكي المكثّفة مع مَنْ قابلتهم، إلّا أنّ كتاب «تشظّيات ذرّيّة» ينجح -بشكل أفضل من كتاب شويبر الأكثر مهنيّة وطموحًا فكريًّا- في استعادة شكل ونسيج معضلة أخلاقيّة حيّة بكلّ غموضها وتناقضها.

تسأل بالفسكي العلماء كيف بنوا هذا السلاح المُريع، وبماذا شعروا تجاه استخدامه في المدن اليابانيّة. وأمام كلّ اعتراض أخلاقيّ تثيره، يشير مقابَلُوها إلى مبادئ مُساوية في الأهمّيّة برّرت أفعالهم أو إلى قيود عمليّة تفسر هذه الأفعال. لكنّها لا تغيّر رأيها على الإطلاق، ومع نهاية الكتاب، تجد نفسها من دون أيّ مبادئ واضحة أو متماسكة تفسّر قناعتها بأن الأمر كان خطأ.

لماذا وافَقْتَ على المشاركة في «مشروع مانهاتن»؟ لأنّ قنبلة نازيّة كانت ستعني القضاء على كلّ المجتمعات المفتوحة والمتسامحة؛ لم تكن الفكرة الأصليّة استخدام القنبلة، ولكنْ منع الألمان من استخدام قنبلتهم. لماذا لم تتوقّف عندما أصبح واضحًا مع نهاية 1944 أنّه لم يكن هناك قنبلة نازيّة؟ كان يجب على «الأمم المتّحدة» الموعودة -والّتي كانت موضع أمل كبير في تحقيق سلام دائم- أن تعرف بوجود سلاحٍ كهذا وبالرعب القادر على إحداثه. عندما قال نيلز بور التقيّ، بعد الاختبار الأصليّ: «هل كان كبيرًا بما فيه الكفاية؟»، ذلك ما كان يعنيه. لماذا وافق الكثيرون منكم على هيروشيما؟ كان من الممكن أن ينتهي الاستخدام التجريبي الّذي اقترحه تقرير فرانك المعارض في حزيران عام 1945، بفشلٍ وبنتائج كارثيّة في حرب المحيط الهادئ؛ وحتّى لو نجح مثل هكذا اختبار، كان من الممكن ألّا يُحاط الإمبراطور اليابانيّ آنذاك هيروهيتو علمًا بنتائجه؛ كان من شأن التفجير الذرّيّ لأهداف حيّة فقط أن يمهّد الأرضيّة للاستسلام غير المشروط؛ كان يمكن لضحايا الحرب من اليابانيّين وقوّات الحلفاء أن تكون أكبر بكثيرٍ لو لم تُستَخْدَم القنبلة؛ وأيضًا، بالنسبة للبعض، كان يجب وضع حدٍّ للتدخّل السوفييتيّ في الحرب اليابانيّة وأن يرى الشيوعيّون حجم القوّة الأمريكيّة. لماذا لم تعبّر بقوّة أكبر عن أيّ هواجس شعرت بها حيال كيفيّة استخدام القنبلة؟ لم يكن ذلك من اختصاصنا. مسؤوليّة العلماء إجراء البحوث، وليس كيفيّة استخدام نتائج بحوثهم. في المجتمع الديمقراطيّ، فإن اتّباع الأوامر شرعيّ وخيّر: بأيّ حقّ سيفترض العلماء أحقيّتهم في الإملاء على أسيادهم المنتخبين ديمقراطيًّا؟ حتّى لو كانت مقاومة أوامر هتلر أكثر صعوبة من أوامر روزفلت، إلّا أنّ مقارنة ذلك بـ«اتّباع الأوامر» في الأنظمة السلطويّة أمر بغيض.

اعتاد جوني فون نيومان على القول: «البعض يقرّ بالذنب لادّعاء الفضل في الخطيئة، لكنّ الذنب الحقيقيّ لا يتعلّق بالفعل نفسه، لكنّه، الذنب -كما كان- يتعلّق باللذّة الشديدة الّتي شعرت بها عند ارتكابه».

 

لم يؤمن جميع العلماء بهذه الأمور، لكنّ كثيرين منهم أعلنوا إيمانهم القويّ ببعضها. من بين الفيزيائيّين، فقط الإنجليزيّ جوزيف روتبلات غادر «لوس ألاموس» عندما أصبح واضحًا فشل البرنامج الألمانيّ النوويّ، وكتب لاحقًا: «تفجير هيروشيما كان وحشيًّا، وفعلًا بربريًّا، وجعلني غاضبًا جدًّا». كذلك نَدِمَ عالم الفيزياء التجريبيّة روبرت ويلسون على عدم اتّباع خطى روتبلات، إلّا أنّ قلّة من الآخرين قالوا إنّهم شعروا بشيء مماثل. توقّف آخرون لاحقًا عن عمل الأسلحة -ومن بينهم، ويلسون، روتبلات، موريسون وفيكتور ويسكوبف- لكنّ الغالبيّة كانوا سعداء بسيول الدولارات الّتي غيّرت بشكل جذريّ طبيعة الأبحاث الفيزيائيّة في العقود اللاحقة على الحرب.

في العموم، رأى العلماء الذرّيون أن لا حاجة للاعتذار. يورك، الّذي أمضى حياته بعد الحرب في العمل من أجل نزع السلاح النوويّ، يشكو بشكل معقول من تعالي التاريخ المقروء بأثر رجعي: «أوّل شيء تعرفه عن الحرب العالميّة الثانية هي كيف انتهت. كان آخر ما عرفته أنا عن الحرب العالميّة الثانية… أوّل شيء تعرفه عن القنبلة الذرّيّة هو أنّنا استخدمناها لقتل العديد من البشر في هيروشيما. وذلك كان آخر شيء عرفتُه عن القنبلة الذرّيّة». وبينما نعيد بناء ضباب عدم اليقين الّذي أحاط بأبحاث الأسلحة في زمن الحرب، تتضح صعوبة تأسيس الأرضيّة اللازمة للوم الأفراد الّذين أجروا الأبحاث، المتفاوتين في دوافعهم، وفي تأثيرهم، وفي معرفتهم. وإن كنّا نعتقد أنّ من الأفضل لو لم تُطَوّر الأسلحة النوويّة قط ولم تُستخدم، فلن يكون من السهل توجيه أصابع الاتّهام إلى أيّ عالمٍ أو مجموعة علماءٍ بمصداقيّة.

مع ذلك، ثمّة شيء آخر يتعلق بالعمل في «مشروع مانهاتن» يثير القلق بقدر ما هو مفهوم وحتّى جذّاب. بالنسبة للعديد من العلماء، كان المكان متعةً لا تُضاهى. لقد قالوا ذلك بأنفسهم وقالوه مرارًا. كتب بيتّه أنّه بالنسبة للعديد من العلماء كان «الوقت الّذي قضوه في «لوس ألاموس» من أجمل أوقات حياتهم». في حين وصفه الفيزيائيّ الإنجليزيّ جيمس تَكْ بـ«الزمن الذهبيّ». كلّ الرجال العظماء كانوا هناك؛ والجميع سعيد برفقة الجميع؛ والجميع متّحد من أجل قضيّة مشتركة حُطِّمَتْ من أجلها الحدود المصطنعة بين الحقول العلمية القائمة في البحث الأكاديميّ. كانت المشاكل مثيرة للاهتمام، والتمويل لا ينضب. لقد كانوا، كما يصف تيلر، «عائلة كبيرة سعيدة». بعد هيروشيما، عندما غادر أوبنهايمر «لوس ألاموس» ليعود إلى بيركلي، شكره الطاقم العلميّ على الوقت الرائع الّذي قضوه مع بعضهم البعض: «لقد نلنا من الرضى جراء عملنا أكثر بكثير ممّا تسمح به ضمائرنا». لقد حظوا بالكثير من المرح إلى الدرجة الّتي دفعت بعضهم إلى اعتبار أنّ السور الّذي أحاط بالمكان لم يكن موجودًا ليمنعهم من المغادرة بل ليمنع الآخرين من الانضمام إليهم. كان ذلك المرح -ذلك الانغماس التام في المعضلة الجميلة تقنيًا والمموّلة بكرم- هو ما أبقى أيّ تفكّر أخلاقيّ محتمل تحت السيطرة.

بالنسبة لمعظم علماء النخبة كانت هناك أيضًا إغراءات وملذّات السلطة. لاحظ الفيزيائيّ إيسيدور رابي التغيّر في صديقه أوبنهايمر بعد الاختبار الأوّل: «كان يمشي مختالًا -هذه أفضل طريقة لوصف الأمر- هذا النوع من الاختيال. لقد فعلها». كانت سلطة لا تتعايش فقط مع الألم الأخلاقيّ، بل تتغذّى عليه وتعرضه. كتب عالم الرياضيّات ستانسلاف أولام أنّ أوبنهايمر «ربّما بالغ في دوره عندما رأى نفسه أمير الظلام ومدمّر الأكوان». وقد اعتاد جوني فون نيومان على القول: «البعض يقرّ بالذنب لادّعاء الفضل في الخطيئة، لكنّ الذنب الحقيقيّ لا يتعلّق بالفعل نفسه، لكنّه، الذنب -كما كان- يتعلّق باللذّة الشديدة الّتي شعرت بها عند ارتكابه».

nexus slot

garansi kekalahan 100