طوفان الآق.صي..قصة خداع استراتيجي يدرّس

“أكبر عملية خداع إستراتيجي” و”فشل استخباراتي إسرائيلي” ربما تكونان من أكثر العبارات التي استخدمها الخبراء والمحللون لوصف عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

وكان الإعلام الإسرائيلي مع بداية أكتوبر/تشرين الأول الحالي ومرور 50 عاما على حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 منهمكا في تحليل “لماذا فاجأت تلك الحرب إسرائيل؟”، وإذ بالسابع من أكتوبر يفاجئ الإسرائيليين بهجوم غير مسبوق، ليس من دولة، بل من حركة مقاومة.

عملية لم تفاجئ فقط جيش الاحتلال الإسرائيلي ومخابراته وأجهزته الأمنية، بل فاجأت العالم أجمع. وزاد من مفاجأتها أنها لم تقتصر على اللحظة الأولى، بل ما زالت مستمرة بعد أكثر من 72 ساعة، إضافة إلى ما حققته من نتائج “باهرة” بمقاييس حركات المقاومة الفلسطينية، والجيوش العربية.

فعلى مدى نحو 8 عقود منذ إعلان قيام “دولة إسرائيل”، لا يوجد شبيه لـ”طوفان الأقصى” اللهم إلا انتصار “السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973″، مع الفارق الكبير في التشبيه، وإن جمعت المفارقة بين الذكرى الـ50 لهذا النصر المصري وانطلاق “الطوفان الفلسطيني”.

الجميع خُدع

وفي غزة وعلى حدودها، لا تغيب أعين إسرائيل أبدا، فطائرات المراقبة المسيّرة تحلق باستمرار في السماء، والحدود شديدة التأمين مليئة بالكاميرات الأمنية والجنود الذين يحرسونها، إضافة إلى العملاء داخل غزة، واستخدام التكنولوجيا في جمع المعلومات.

لكن رغم كل ذلك، فقد “وقعت الواقعة”، وبدا أن عيون إسرائيل كانت “مغمضة” في الفترة التي سبقت الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس.

يقول الجنرال المتقاعد ياكوف عميدرور -وهو مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو– إن الهجوم يمثل “فشلا كبيرا لنظام المخابرات والجهاز العسكري في الجنوب”.

وأضاف عميدرور -الذي كان رئيسا لمجلس الأمن القومي بين عامي 2011 و2013، وهو الآن زميل كبير في معهد القدس للإستراتيجية والأمن- إن بعض حلفاء إسرائيل كانوا يقولون إن حماس اكتسبت “مزيدا من المسؤولية”، ويعلق بقوله “لقد بدأنا بغباء نعتقد أن هذا صحيح”.

ويؤكد الجنرال الإسرائيلي السابق إسرائيل زيف أنه “لم يسبق أن رأيت في حياتي كلها مثل هذا التخطيط والتنفيذ التفصيلي” الذي تم في “طوفان الأقصى”.

وتحت عنوان “لقد نمنا في أثناء الحراسة، وباغتونا وسروالنا في الأسفل”، كتب المحلل العسكري يوسي يهوشوع في صحيفة يديعوت أحرونوت “بعد 50 عاما ويوما من فشل تلك الحرب (1973)، ورغم عقود من الحديث عن الدروس المستفادة، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة وسروالها في الأسفل.. لقد تحطمت في وجوهنا كل التقديرات التي تقول إن حماس غير معنية بالحرب وتريد أن تحكم قطاع غزة ولا تنزلق إلى الصراع”.

ويقول المحلل السياسي الإسرائيلي المخضرم ميرون رابوبورت إن “هذا المستوى من المباغتة لم يحدث، ولا حتى في حرب 1973″، مضيفا أن “أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في حالة من الذهول، وأن ثقة الإسرائيليين بالجيش اهتزت حتى النخاع”.

ويتابع “وحدة الاستخبارات التابعة للجيش الإسرائيلي (التي تعرف باسم الوحدة 8200) لديها القدرة على معرفة أدق التفاصيل في حياة الفلسطينيين، ومع ذلك لم تكن قادرة على معرفة أن بضع مئات، أو ربما بضع آلاف، من المقاتلين كانوا يستعدون للقيام بهجوم معقّد وعلى نطاق واسع”.

أما وزير الدفاع الأميركي الأسبق مارك أسبر، فقال إن عملية طوفان الأقصى “فشل ذريع للمخابرات الإسرائيلية”، ولا يستبعد أن تطيح هذه العملية الجريئة بنتنياهو.

وفي المقابل، فإن “استخبارات المقاومة نجحت في رسم صورة دقيقة للمواقع الإسرائيلية وتقويض شبكة العملاء”، حسبما يقول القيادي في حركة حماس أسامة حمدان.

ويؤيد كلام حمدان ما قاله محلل الشؤون العسكرية في القناة 12 الإسرائيلية نير دفوري، الذي أوضح أن عناصر كتائب القسام عملت بشكل مدروس ومخطط له منذ فترة، إذ أظهرت المرئيات كيف فجّر المسلحون الجدار الأول والبوابات في الجدار الثاني، وتوغل عشرات المركبات لكتائب القسام إلى بلدات الجنوب في محيط غزة.

ورجّح أن حجم الإخفاق الاستخباراتي والفشل في التعامل مع المسلحين من كتائب القسام سيبقى طي الكتمان حتى بعد الفحص وتشكيل لجان تحقيق، مؤكدا أن إسرائيل بمختلف أجهزتها ومؤسساتها أخفقت في التعامل مع الفلسطينيين.

كيف تم الخداع؟

على مدى عامين، نفذت حركة حماس وجناحها العسكري حملة خداع إستراتيجي دقيقة، الأمر الذي مكّن قوة تستخدم الجرافات والطائرات الشراعية والدراجات النارية من التغلب على جيش يُوصف بأنه “أقوى جيش في الشرق الأوسط”، و”الجيش الذي لا يُقهر”.

وشملت عملية الخداع إبقاء خطط حماس العسكرية طي الكتمان وإقناع إسرائيل بأن الحركة لا تريد القتال. وتنقل وكالة رويترز عن مصدر مقرب من حماس قوله إنه “بينما كانت إسرائيل تعتقد أنها احتوت حماس التي أنهكتها الحرب من خلال توفير حوافز اقتصادية للعمال في غزة، كان مقاتلو الجماعة يتم تدريبهم، وغالبا على مرأى من الجميع”.

وأضاف المصدر أن “حماس استخدمت تكتيكا استخباراتيا غير مسبوق لتضليل إسرائيل خلال الأشهر الماضية، من خلال إعطاء انطباع عام بأنها غير مستعدة للدخول في قتال أو مواجهة مع إسرائيل في أثناء التحضير لهذه العملية الضخمة”.

وكشف المصدر المقرب من حماس عن أنه في أحد العناصر الأكثر لفتا للانتباه في استعداداتها، قامت حماس ببناء مستوطنة إسرائيلية وهمية في غزة حيث تدربت على الإنزال العسكري وتدربت على اقتحامها.

ويشير المصدر إلى أنه من المؤكد أن إسرائيل رأتهم، لكنهم كانوا مقتنعين بأن حماس لم تكن حريصة على الدخول في مواجهة، بعد أن أقنعت إسرائيل بأنها مهتمة أكثر بضمان حصول العمال في غزة على فرص عمل عبر الحدود، وليس لديهم مصلحة في بدء حرب جديدة.

في المقابل، يعترف مصدر أمني إسرائيلي بأن حماس خدعت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فقال “لقد جعلونا نعتقد أنهم يريدون المال، وطوال الوقت كانوا يشاركون في التدريبات”، حسب ما نقلت وكالة رويترز.

وضمن حيلتها في العامين الماضيين، امتنعت حماس عن القيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، حتى في أثناء تلك المواجهات التي وقعت بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي خلال تلك الفترة، وهو أمر عرّض حماس لانتقادات عديدة.

السرية أولا

ولطالما تفاخرت إسرائيل بقدرتها على اختراق حركات المقاومة ومراقبتها، لكن -فيما يبدو- فإن جزءا حاسما من خطة حماس كان تجنب التسريبات.

وتنقل رويترز عن المصدر أن “العديد من قادة حماس لم يكونوا على علم بالخطط”. وفي أثناء التدريب، “لم يكن لدى مئات المقاتلين المنتشرين في الهجوم أي فكرة عن الغرض الدقيق من التدريبات”.

ويلفت الكاتب يوسي يهوشوع إلى أن ممارسة الخداع التي قامت بها حماس، عبر إثارة الأزمة على السياج الحدودي، خدّرت الجيش وخلقت صورة استخباراتية كاذبة.

لكن الأهم من ذلك ما كشفته صحيفة هآرتس من أن كبار ضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي ومسؤولين في المؤسسة الأمنية أصدروا تقييما الأسبوع الماضي يتحدث عن أن حركة حماس ترغب في تجنب حرب شاملة مع إسرائيل، في أعقاب التصعيد العنيف الأخير بالقرب من حدود غزة خلال الأسابيع الأخيرة.

عناصر كتائب القسام اعتمدوا التواصل المباشر وتجنبوا استخدام وسائل التكنولوجيا خشية مراقبتها (الجزيرة)

لا تكنولوجيا على الإطلاق

هناك جانب آخر حرصت عليه حماس بشدة في تخطيطها للعملية، وهو الابتعاد عن التكنولوجيا ووسائل الاتصالات التي تخضع “حتما” لمراقبة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.

وهنا يشير الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إلى أن من وصفهم بـ”الإرهابيين في غزة” وجدوا طرقا للتهرب من جمع المعلومات الاستخبارية التكنولوجية، مما أعطى إسرائيل صورة غير كاملة عن نياتهم.

وقال أفيفي -الذي عمل سابقا في الاستخبارات- “لقد تعلم الجانب الآخر كيفية التعامل مع هيمنتنا التكنولوجية وتوقفوا عن استخدام التكنولوجيا التي يمكن أن تكشفها”.

وأضاف “لقد عادوا إلى العصر الحجري.. لم يكونوا يستخدمون الهواتف أو أجهزة الكمبيوتر، وكانوا يقومون بأعمالهم الحساسة في غرف محمية خصيصا من التجسس التكنولوجي أو يختبئون تحت الأرض”.

ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أشار إلى أن المخابرات الإسرائيلية تفاجأت بهجوم السبت، كون “عناصر حماس تجنبوا مناقشة خططهم المسبقة عبر الهواتف المحمولة، أو وسائل الاتصال الأخرى التي يمكن اعتراضها”.

وأضح مسؤولون أميركيون سابقون للصحيفة أنه “من المرجح أن حماس استخدمت التخطيط التقليدي وجها لوجه لتجنب الكشف الإسرائيلي”، لافتين إلى أنه “لا بد أن مئات الأشخاص كانوا منخرطين في التخطيط للهجوم، مما يدل على أن جهود حماس لكسر شبكة المخبرين الإسرائيلية كانت ناجحة”.

4 خطوات

وعندما جاء اليوم الموعود، تم تقسيم العملية إلى 4 أجزاء:

تمثلت الخطوة الأولى في إطلاق وابل من آلاف الصواريخ من غزة تزامنت مع توغلات قام بها مقاتلون طاروا بطائرات شراعية عبر الحدود.

وبمجرد وصول المقاتلين على الطائرات الشراعية إلى الجانب الآخر، قاموا بتأمين الأرض حتى تتمكن وحدة كوماندوز من النخبة من اقتحام الجدار الإلكتروني والإسمنتي المحصن الذي يفصل غزة عن المستوطنات والذي بنته إسرائيل لمنع التسلل.

وحسب المصدر، فقد استخدم المقاتلون المتفجرات لاختراق الحواجز ثم عبروها مسرعين على دراجات نارية، فيما وسعت الجرافات الفجوات ودخل مزيد من المقاتلين بسيارات رباعية الدفع.

فلسطينيون يقتحمون الجانب الإسرائيلي من السياج الحدودي مع غزة بعد أن تسلل عناصر المقاومة إلى مناطق بجنوب إسرائيل (رويترز)

وقال المصدر إن وحدة كوماندوز هاجمت مقر قيادة الجيش الإسرائيلي في جنوب غزة، وشوشت على اتصالاته ومنعت الأفراد من الاتصال بالقادة أو ببعضهم بعضا.

وأوضح أن الجزء الأخير شمل نقل الأسرى إلى غزة، وهو ما تم تحقيقه في الغالب في وقت مبكر من الهجوم.

وهنا يقول المتحدث باسم قوات الاحتلال الرائد نير دينار “هذا هو 11 سبتمبر/أيلول.. لقد تمكنوا منا.. لقد فاجؤونا وجاؤوا بسرعة من عدة مواقع، سواء من الجو أو الأرض أو البحر”.

المباغتة في وجه الغطرسة

وكما وقعت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 يوم السبت -وهو يوم إجازة رسمية لدى إسرائيل- فقد اختارت القسام أيضا لمعركتها اليوم ذاته، الذي صادف آخر أيام ما يُسمى “عيد العُرش”، لشن هذه العملية المباغتة.

وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد عملت كثيرا على عنصر المفاجأة، فإن “الغطرسة” الإسرائيلية قد بلغت مداها، حتى إنها لم تلتفت إلى تحذيرات المخابرات المصرية المتكررة بشأن “شيء كبير سيحدث”.

وتنقل وكالة أسوشيتد برس عن مسؤول مخابرات مصري قوله “لقد قللوا من شأن هذه التحذيرات”، مشيرا إلى أن إسرائيل ركزت على الضفة الغربية بدلا من غزة.

وللمفارقة، فقد توقع المحلل السياسي فايز أبو شمالة ما حدث في “طوفان الأقصى” من مواجهة شاملة واقتحام للحدود والاستيلاء على مستوطنات ومواقع عسكرية قبل أكثر من 5 سنوات، لكن أحدا من الإسرائيليين لم ينتبه في ظل سيطرة غرور القوة.

وأيا كانت الأسباب، فإن قصة الخداع الإستراتيجي التي نفذتها حماس ببراعة، وشهد لها العدو قبل الصديق، ستظل علامة فارقة في تاريخ هذا الصراع، وستُحكى من كلا الطرفين، بل وستُدرّس، حسبما قال أحد المتحدثين باسم الاحتلال.

المصدر : الجزيرة

nexus slot

garansi kekalahan 100