من المستفيد من تراجع الغرب في إفريقيا؟

يبدو أن الانقلاب على الرئيس محمد بازوم في النيجر أصبح أمرًا واقعًا، إذ أعلن قادة الانقلاب – أمس الجمعة – قرارات جديدة لتوطيد سلطتهم، على غرار تعليق العمل بالدستور وحل المؤسسات المنبثقة عنه، وتعليق أنشطة الأحزاب السياسية حتى إشعار آخر.

فضلًا عن ذلك، أعلن المجلس الذي تم تشكيله بعيد الانقلاب، توليه المهام التشريعية والتنفيذية كاملة إلى حين العودة للنظام الدستوري المعلّق، على أن يتولى رئيس المجلس – وهو قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تياني – منصب رئيس الدولة، ويمثل البلاد في العلاقات الدولية.

في الأثناء، حذّر قادة الانقلاب من عواقب أي تدخل عسكري أجنبي، وقال متحدث عسكري إن بعض الشخصيات في نظام بازوم تسعى بالتعاون مع بعثات دبلوماسية أجنبية إلى المواجهة، مضيفًا أن ذلك لن يؤدي إلا إلى قتل النيجريين.

ويقصد العسكريون هنا، فرنسا التي اتهمها الجيش بخرق قرار إغلاق المجال الجوي، حيث أشارت قيادة الجيش إلى هبوط طائرة عسكرية فرنسية الخميس بالعاصمة نيامي، وتعتبر فرنسا القوة الاستعمارية السابقة في البلاد والحليف الأبرز للرئيس المعزول محمد بازوم.

تراجع النفوذ الغربي

لم يفلح التنديد ولا التهديد الصادر عن المنظمات والقوى الدولية والإقليمية في ثني عسكر النيجر عن القيام بمخططهم كاملًا، إذ يمضون قدمًا في مسعى السيطرة على حكم البلاد وإبعاد الرئيس محمد بازوم عن السلطة.

توطيد أركان الانقلاب في النيجر، يعني خسارة حليف آخر في إفريقيا، إذ يعد محمد بازوم حليفًا مقربًا للقوى الغربية خاصة فرنسا، وتولى بازوم عام 2021 رئاسة النيجر، وكان أول رئيس من دون انقلاب عسكري، كما أنه أول عربي يرأس بلاده.

ورغم استقلال أغلب الدول الإفريقية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وخروج القوى الاستعمارية من القارة – على غرار فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا – فإن نفوذ هذه الدول استمر في أغلب تلك المستعمرات السابقة.

وتحظى إفريقيا بأهمية كبرى لدى الدول الغربية، إذ تقع على مقربة من القارة العجوز، ولديها القدرة على الاضطلاع بدور كبير على الساحة العالمية، كما تمتلك مخزونًا من المعادن والطاقة يخولها الاستمرار بتعزيز هذا الدور.

منحت هذه القوى الاستعمارية نفسها، حق التدخل العسكري في تلك الدول لحماية مصالحها هناك، لكن يبدو أن خريطة النفوذ بدأت تتغير في السنوات الأخيرة، فالغرب فقد العديد من الحلفاء سواء في شمال القارة أم غربها.

تحولت بكين خلال العقدين الأخيرين من مجرد مستثمر صغير في إفريقيا إلى لاعب أساسي متحكم في القارة السمراء

ففي الشمال لم تعد التبعية كاملة للغرب، وقد عاينا ذلك في مصر وليبيا والجزائر وبدرجة أقل تونس، وفي غرب القارة أيضًا، وخير دليل على ذلك الانقلابات المتتالية في تلك المنطقة وآخرها ما حصل في النيجر وقبلها في مالي وبوركينا فاسو.

وتكشف المظاهرات الشعبية المناهضة للغرب في العديد من الدول الإفريقية، تراجع النفوذ الغربي في القارة السمراء، رغم أن هذه الدول في معظمها تعتبر امتدادًا تاريخيًا للغرب، فمدخراتها المالية وثرواتها وقرارها السيادي تحت سلطة القوى الغربية.

لسنوات طويلة، ظل قادة أغلب الدول الإفريقية، أوفياء للدول الغربية، فاستقرار النظام مرتبط بمدى قوة علاقته بالغرب، حتى إن بعض الدول ترعى الانقلابات في إفريقيا لحماية مصالحها، لكن الوضع الآن تغير، فالانقلابات ضد حلفاء الغرب وليس العكس.

وظهر جليًا للأفارقة أن القوى الغربية منشغلة بمصالحها على حساب مصالح دولهم، ما سمح بتمدد الجماعات المسلحة وتدهور الوضع الاقتصادي وبقاء الأنظمة الديكتاتورية في السلطة، ما دفع جزءًا منهم للترحيب بقوى أجنبية أخرى وطلب تدخلهم.

الدب الروسي

تراجع النفوذ الغربي في القارة الإفريقية أصبح ظاهرًا للعيان، لكن السؤال المطروح الآن: من المستفيد من هذا التراجع؟ تبدو روسيا أبرز المستفيد، ففي الوقت الذي تكافح فيه الدول الغربية للمحافظة على آخر قلاعها في القارة السمراء، يجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع القادة الأفارقة في سان بطرسبورغ.

أحسنت روسيا استغلال التراجع الغربي لصالحها، إذ امتد نفوذها، المباشر وغير المباشر، إلى العديد من الدول، خاصة في منطقة الساحل والصحراء وشمال القارة وشرقها، فدول القارة مرتاحة من الوجود الروسي الذي لا يتدخل في قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويوفر تسهيلات مهمة في مجال نقل الموارد المالية.

زادت روسيا في السنوات الأخيرة من نشاطها العسكري والدبلوماسي في القارة السمراء، عبر المجموعات الأمنية الخاصة، على رأسها مرتزقة فاغنر، وذلك لحماية النخبة الحاكمة وممتلكاتهم واستثماراتهم، والانخراط في بعض النزاعات التي تهدد بقاء القادة الأفارقة في السلطة.

كما استثمر الروس مؤسسات الضغط التي تشرف على العلاقات العامة، فضلًا عن بعض الشركات الاستثمارية، وعملت على تقديم بعض الدعم الاقتصادي وذلك لتعزيز قوتها ونفوذها هناك، وإضعاف خصومها في بعض المجالات الإستراتيجية.

تركز روسيا على الجزائر وليبيا ومصر وتونس في شمال القارة، فضلًا عن دول مالي وموريتانيا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، دون أن ننسى غينيا وإفريقيا الوسطى والسنغال ونيجيريا ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى السودان وموزمبيق وأنغولا وسيراليون وإثيوبيا.

يرجع تركيز موسكو على هذه الدول دون غيرها في الوقت الحالي، إلى وجود أنظمة استبدادية على رأسها يسهل التعامل معها، كما أنها من أكثر الدول هشاشة في المنظومة الأمنية، فضلًا عن احتوائها على ثروات باطنية مهمة، كما أن بعضها يطل على المياه الدافئة.

المارد الصيني

فضلًا عن روسيا، تعتبر الصين أبرز المستفيدين من التراجع الغربي، إذ مدت بكين أذرعها في مختلف أنحاء القارة السمراء، وأحكمت سيطرتها على مفاصل الحكم في العديد من الدول، مستغلة إمكاناتها الكبيرة وحاجة الأفارقة إلى حليف قوي.

وسجّل الاقتصاد الصيني السنة الماضية، 282 مليار من المبادلات التجارية مع إفريقيا، فيما لم يسجل الاتحاد الأوروبي إلا 254 مليار دولار، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد توقفت مبادلاتها التجارية مع إفريقيا عند حدود 83 مليار دولار.

وتعتبر الصين حاليًا، أكثر الدول التي تملك بعثات دبلوماسية في القارة الإفريقية، حيث تمتلك 53 بعثة من جملة 54 دولة في القارة، ما يؤكد قوة الانتشار الدبلوماسي لبكين في هذه المنطقة والاهتمام الكبير بها، رغم أنها لم تكن قوة استعمارية في القارة الإفريقية.

الحصول على حليف قوي، أمر مهم في السياسة الخارجية للدول، لكن ذلك لا يعني الارتهان الكلي له

تحولت بكين خلال العقدين الأخيرين من مجرد مستثمر صغير في إفريقيا إلى لاعب أساسي متحكم في القارة السمراء بفضل استثماراتها الكبرى وصورتها الجيدة لدى الأفارقة (السياسة الناعمة)، وترتكز الصين عكس روسيا على الاستثمار والتجارة، ما مكنها من أن تكون الشريك التجاري الأول للدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة.

تبنت بكين سياسة القروض الميسرة والمساعدات غير المشروطة بحقوق الإنسان أو الحريات وغيرها من الشروط التي تضعها الدول الغربية عادة في هذا الصدد، وذلك لمزيد من التمكين وبسط نفوذها في القارة في ظل المنافسة الكبرى هناك.

تركيا الصاعدة

إلى جانب هذه الدول، ازداد نشاط تركيا في إفريقيا بصفة ملحوظة في السنوات الأخيرة، نتيجة الإستراتيجية الجديدة التي ينتهجها الرئيس رجب طيب أردوغان منذ توليه السلطة، وجرى خلالها التركيز على شمال القارة وشرقها فضلًا عن غربها أيضًا.

تنامى النفوذ التركي في إفريقيا خلال العقد ونصف العقد السابقَين، إذ باتت عدة دول إفريقية في مرمى أنظار الأتراك، وجزءًا من دائرة نفوذ أنقرة، بعد أن ركّزت القيادة التركية على توسيع رقعة نفوذها لتعزيز أهدافها على المستويَّين الاقتصادي والعسكري، تمهيدًا للاضطلاع بدور أكبر في القارة السمراء.

اعتمدت تركيا في إستراتيجية التمدد في إفريقيا على العديد من النقاط، أبرزها القوة الناعمة، إذ فتحت السفارات وتبادلت الزيارات، واستمالت النُّخب الدينية، وفتحت جامعاتها للطلبة الأفارقة ويسرت سفر الأفارقة لتركيا للدراسة أو العلاج والسياحة أيضًا، كما قامت بالعديد من المشاريع التنموية والخيرية وقدمت المساعدات للأفارقة.

ناهيك بتركيزها على الجانب العسكري، إذ تدخلت تركيا في ليبيا إلى جانب الحكومة الشرعية، ووقعت اتفاقيات عسكرية مع العديد من الدول الإفريقية، مستغلة تفوقها في هذا المجال ورغبة الأفارقة في الحصول على أحدث التقنيات الحربية دون شروط.

كدليل على تنامي النفوذ التركي في إفريقيا، تجاوز حجم المشاريع التي تتولاها تركيا في القارة 82 مليار دولار، وفق نائب وزير الخارجية التركي فاروق قيماقجي، فيما ارتفع حجم التجارة بين تركيا وإفريقيا من 4.3 مليارات دولار في أوائل العقد الأول من القرن الحاليّ إلى أكثر من 35 مليار دولار.

قوى أخرى

فضلًا عن هذه القوى الإقليمية، نجد بعض القوى الصاعدة الأخرى، التي تسعى لفرض نفوذها في القارة الإفريقية، وإن كان الأمر باحتشام، من ذلك جهود كل من السعودية والإمارات وقطر والكيان الإسرائيلي، لكنها غالبًا ما تتحرك في ظلّ الدول الغربية، حتى إن أبدت في بعض المرات استقلالية قرارها.

نجد الهند أيضًا، التي تعد شريكًا اقتصاديًا مهمًا للأفارقة، وترتكز إستراتيجية الهند في إفريقيا على “التعاون بين بلدان الجنوب”، وعملت منذ السبعينيات على المشاركة في عمليات حفظ السلام في إفريقيا وتقديم المنح الدراسية والمنح الإغاثية الإنسانية، والإشراف على استثمارات من القطاعين العام والخاص.

الحصول على حليف قوي، أمر مهم في السياسة الخارجية للدول، لكن ذلك لا يعني الارتهان الكلي له، لذلك على الأفارقة استثمار الفرص المتاحة لهم للخروج من الفقر والتهميش وتنمية الديمقراطية في بلدانهم بعيدًا عن الشعارات.

nexus slot

garansi kekalahan 100