أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي.. ما الدور الذي لعبته “الست” في السياسة العربية؟

خلال فصول كتابه “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي”، الصادر عن دار تنمية للنشر، والحائز على جائزة الدولة التشجيعية في مجال العلوم الاجتماعية في مصر، فرع التاريخ والآثار وحفظ التراث، عام 2023؛ يتناول الباحث المصري “كريم جمال” الحملة التي دشنتها السيدة أم كلثوم في أعقاب هزيمة جوان 1967.

يتتبع الكتاب رحلات “كوكب الشرق” ما بين المشرق والمغرب، والحفلات التي أقامتها بغرض جمع التبرعات لإعادة بناء الجيش المصري، ما بين عامي 1967 و1972، ورغم ذلك، فإن أهمية الكتاب الحقيقية تكمن في تقديمه سردية عن صمود الإنسان العربي خلال فترة حرجة من عمر الشعوب العربية، مثلما تتيح المادة التاريخية قراءة العلاقة ما بين السلطة والفنان المتمثل في أم كلثوم، والنظر إلى تلك العلاقة من خلال سياق نقدي. وقد اعتمد الباحث في كتابه على عدة مصادر، أبرزها أرشيف الصحف والمجلات المصرية والعربية، بداية من عام 1967 وحتى عام 1973.

“أبَيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامي إلا أحد أمرين: فإما أن ألتزم الصمت وأقبع في ركن من الانهيار النفسي، وإما أن أمضي بسلاحي، وهو صوتي، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني”.

(أم كلثوم، مجلة الهلال، أكتوبر 1971)

ما قبل يونيو 67 والثقة المفرطة

(مواقع التواصل)

في الفصل الأول من كتابه، يقدم الكاتب لمحة عن الأوضاع في مصر قبل حرب جوان 1967 مباشرة، حيث يصوّر مدى إيمان الجماهير العربية بـ”المشروع الناصري”، خاصة مع سيل القرارات الجريئة والواثقة التي اتخذتها القيادة المصرية خلال شهر مايو/ أيار من العام ذاته، مثل إعلان نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، المشير عبد الحكيم عامر، حالة التعبئة العامة ورفع درجة الاستعداد داخل المؤسسة العسكرية، بالتزامن مع إرسال الفريق محمد فوزي، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، خطابا إلى قائد قوات الطوارئ الدولية الموجودة على خط المواجهة بين طابا ورفح، يطلب فيه سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والمسؤولة منذ عام 1956 عن منع الاحتكاك بين القوات المصرية والإسرائيلية، وأخيرا والأهم قرار إغلاق مضيق العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية.

انعكست هذه القرارات، التي تزامنت مع نبرة خطابية قوية للنظام الناصري، على الشعوب العربية، التي تأهبت لـ”إلقاء دولة الاحتلال الإسرائيلي في البحر”، ولم يكن غريبا أن يتمحور شعار الإذاعة المصرية وقت ذلك حول كوكب الشرق، كي يصبح “أم كلثوم معكم في المعركة”، بنبرة تفيض بالحماس والتفاؤل، إذ إن أم كلثوم التي ظن البعض أن أسطورتها انتهت مع قيام دولة يوليو 1952، بوصفها مطربة العهد الملكي البائد، ما لبثت أن نهضت مثل عنقاء، وأصبحت أحد أعمدة دولة يوليو، ولعبت ذات الدور الذي لم يبلغه أي فنان من قبل.

تسابق الفنانون في إطلاق أعمال فنيّة تدعم حالة التعبئة تلك، خاصة قطاع الموسيقى والغناء، وكان نصيب السيدة أم كلثوم تقديم أغنية “راجعين بقوة السلاح”، كلمات الشاعر “صلاح جاهين”، وتلحين ملحنها الأثير “رياض السنباطي”، فيما طلبت إذاعة الشرق الأوسط من السيدة توجيه بعض النداءات الحماسية للجنود، وقد رحبت السيدة بالفكرة وسجّلت بصوتها 7 نداءات كانت تُبَثّ على مدار اليوم بحسب مجلة الكواكب المصرية، التي ذكرت أيضا أن السيدة صرّحت لمحرر المجلة أن حفلتها القادمة سوف تكون في تل أبيب! كذلك أرسلت أم كلثوم خطابا إلى القيادة العسكرية تطلب فيه السفر إلى الجبهة المصرية ومخاطبة الجنود في أرض المعركة، إلا أن طلبها قوبل بالرفض نظرا لخطورة الموقف.

كان كل شيء حتى ذلك الوقت ينبئ بالثقة والنصر، قبل أن تنكسر الأحلام في مساء التاسع من يونيو/ حزيران، حين طالع عبد الناصر الجماهير، مُقرّا بالهزيمة ومعلنا تنحّيه عن المسؤولية. يسرد الكتاب تفاصيل تلك الليلة في حياة أم كلثوم، ففي اللحظة التي أنهى فيها عبد الناصر خطابه، انسحبت السيدة باكية إلى بدروم فيلتها، الذي كان مجهزا من أجل تجارب أغنياتها، وقضت هناك عدة أيام وحيدة منعزلة، قبل أن تنهض مجددا من الرماد، وبإرادة السيدة الريفية الصلبة تقرر أن ثمة واجبا أخيرا لا بد أن تؤديه.

من دمنهور إلى باريس.. معكم أم كلثوم

ينطلق الكتاب في توثيق أحداث الحملة التي دشنتها السيدة أم كلثوم من أجل دعم المجهود الحربي، والملاحظ أن أولى المبادرات جاءت سريعا يوم 20 يونيو/ حزيران، ولم يكن مرّ أكثر من أسبوعين على الهزيمة، وكانت على هيئة تبرّع بمبلغ 20 ألف جنيه إسترليني، وهو الأجر الذي تلقته السيدة من إذاعة دولة الكويت مقابل بث أغنياتها، ولم يعلم أحد بذلك التبرع إلا بعدما سرّب أحد العاملين في وزارة المالية ذلك الخبر إلى الصحفي موسى صبري في جريدة الأخبار، الذي كتب مقالا تحت عنوان: خذوا القدوة من أم كلثوم.

كان ذلك التبرع هو النقطة التي انطلقت منها أم كلثوم في تقديم الدعم لإعادة بناء الجيش المصري، حيث بادرت بتكوين هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية، وهي الهيئة التي تراوح نشاطها ما بين زيارة الجنود المصابين في المستشفيات والترفيه عنهم، وجمع التبرعات والدعوة إلى ترشيد الاستهلاك ومحاربة الإسراف و”الشائعات”، وأخيرا التواصل على المستوى العربي والدولي بغرض شرح القضية المصرية، وتوضيح خطورة إسرائيل على الأمن والسلام الدوليين.

أما على مستوى حفلات دعم المجهود الحربي، فقد جاءت أولى الليالي في مدينة دمنهور المصرية، وكانت حصيلة الحفل 76 ألف جنيه مصري، ثم تتابعت الحفلات على مدار 5 أعوام بين محافظات مصر، وفي أوروبا، أحيت أم كلثوم حفلتين فوق مسرح الأولمبيا الشهير في باريس، وحفلا في موسكو، كذلك في العديد من الدول العربية، وقد أحيت السيدة الحفلات في 7 دول عربية خلال تلك الفترة، وهي المغرب والكويت والسودان وتونس ولبنان والإمارات وليبيا، وبلغت حصيلة تلك الحفلات نحو 3 ملايين جنيه مصري، ونصف مليون جنيه بالعملة الصعبة، بالإضافة إلى مصوغات ذهبية ومجوهرات.

يسلط الكتاب أيضا الضوء على دور السيدة أم كلثوم الذي تخطى فكرة جمع التبرعات أو التعريف بالقضية المصرية، إلى تحسين العلاقات بين الدولة المصرية ودول أخرى شقيقة. وعلى سبيل المثال، يتطرق إلى توتر العلاقة المصرية-التونسية في تلك السنوات، بعد استقبال مصر الزعيم التونسي “صالح بن يوسف” لاجئا في القاهرة عام 1955. ورغم زيارة عبد الناصر تونس في عام 1963 للمشاركة في احتفالات عيد الجلاء، وزيارة بورقيبة القاهرة عام 1965 وحضوره حفلا أقيم على شرفه أحيته أم كلثوم في دار الأوبرا المصرية، إلا أن ذهاب أم كلثوم إلى تونس في مايو/ أيار 1968 في إطار حفلات دعم المجهود الحربي كان نقطة التحول في مسار العلاقة بين البلدين.

قراءة لما بين السطور

ورغم أهمية الدعم الفوري الذي قدمته السيدة أم كلثوم، فإن النظر بعقلانية وبعيدا عن مشاعر الحماسة الوطنية تدفعنا إلى التفكير في عدم ارتباط هذه المبادرة بأي رؤية نقدية أو مساءلة للسلطة عن أسباب الهزيمة. لقد قدمت أم كلثوم الدعم غير المشروط الذي ترغب فيه أي سلطة، وبالإمكان أن يرى محبو السيدة ذلك التصرف في إطار الظروف والمخاطر المحيطة بقارب الوطن بعد النكسة، بينما في المقابل يطرح الكاتب المصري “حسين الحاج” تساؤلا مهما حول هذا الدعم، وهو: “أم كلثوم معكم في المعركة أم معكم في السلطة؟”، التساؤل الذي ينظر إلى أم كلثوم باعتبارها سلطة تدافع عن ذاتها، قبل كونها مواطنة تسهم في إعادة بناء الوطن!

يشير “الحاج” أيضا إلى لقب “سيدة مصر الأولى” الذي حظيت به أم كلثوم خلال فترة حكم جمال عبد الناصر، ومن المعروف أن هذا اللقب تحظى به عادة زوجات الرؤساء، لكن تواري السيدة “تحية كاظم”، زوجة الرئيس المصري، عن الأضواء مكّن أم كلثوم من الحصول على لقب سيدة مصر، وهو الأمر الذي لم تنله خلال العهد الملكي. وفي السياق ذاته، يشير كريم جمال في الفصل الختامي من كتابه إلى أن أم كلثوم فقدت الكثير من مكانتها الاجتماعية بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات مقاليد الحكم، خاصة مع وجود السيدة جيهان السادات، فيما سرت شائعات في تلك الآونة عن تنافس بين السيدتين حول الأحقية بالدور الاجتماعي ولقب سيدة مصر، التنافس الذي وصل إلى استهداف بعض المبادرات التي أطلقتها أم كلثوم وتجميد مشروعها الخيري الشهير “دار أم كلثوم”.

ويرى الكاتب أن رجال العهد الجديد نظروا إلى أم كلثوم باعتبارها المعادل الأنثوي لعبد الناصر، بشعبيته العربية الطاغية وحضوره الكاريزمي، في الوقت الذي استهدفت فيه ثورة التصحيح رموز دولة عبد الناصر. ويرصد الباحث تراجعا واضحا في عدد حفلات المجهود الحربي منذ عام 1971، الأمر الذي لا يمكن وضعه فقط في سياق تدهور الحالة الصحية لأم كلثوم، حيث اقترن ذلك باختفاء تدريجي لأخبار السيدة من الجرائد المصرية منذ عام 1972، إضافة إلى تجاهل مشاركاتها في المجهود الحربي خلال تلك الفترة، رغم وجود بعض الوثائق التي تؤكد استمرار حملة أم كلثوم لما بعد حرب أكتوبر 1973، إلا أن دورها في تلك السنوات مثل المجهود الخفي الذي لا يمكن تحديد حجمه ومقداره مع ندرة المعلومات عنه.

وفي السياق ذاته، يذكر الباحث الحفل الوحيد الذي أحيته السيدة أم كلثوم خلال عام 1972، وهو الحفل الأخير في سلسلة حفلات دعم المجهود الحربي، حيث أقيم بعد رحلة علاجية وفترة نقاهة طويلة قضتها السيدة في منتجع “باد جاشتاين (Bad Gastein)” النمساوي، ورغم أن صحيفة الأهرام المصرية دعت إلى الحفل بوصفه سهرة العروبة الكبرى المرتقبة، مثلما أشرف محافظ القاهرة “إبراهيم بغدادي” شخصيّا على الأمور التنظيمية، فإن الجرائد المصرية لم تقدم أي تحقيق صحفي عن تلك الليلة، ولا يعرف أحد مقدار ما أضافه ذلك الحفل إلى المجهود الحربي.

لا تهاون في حق أم كلثوم

أحد الأمور التي تستحق الثناء في كتاب سنوات المجهود الحربي هو اقترابه من أم كلثوم على المستوى الإنساني، كي نراها ترقص مع فتيات مراكش على نقر الدفوف، أو تندفع وتتشارك الغناء مع منشدي تونس، مثلما تتبادل المزاح مع أحد المعجبين بسرعة البديهة وخفة الظل المعروفين عنها، رغم أن السردية الأساسية للكتاب تنطلق مما تمثله أم كلثوم بوصفها رمزا وأسطورة مهيبة استطاعت بمفردها تقديم العون للدولة المصرية، بل وللأمة العربية أيضا. وعلى سبيل المثال، ما يذكره الباحث عن حفلتي ليبيا اللتين أقامتهما السيدة في طرابلس وبنغازي، بدعوة من عبد الله السنوسي في مارس 1969، فيما وجهت أم كلثوم حصيلة الحفل لصالح الفدائيين الفلسطينيين ومنظمة فتح. وقد غنت السيدة في طرابلس في خيمة جهزتها منظمة فتح، وكان أفرادها يستقبلون رواد الحفل في مدخل السرادق ويُشرفون على تنظيمه، كما ظهر شعار المنظمة خلف السيدة طوال فترة الحفل، وحملت تذاكره عبارة: “لدعم المجهود الحربي وحركة فتح”.

هذه الهيئة الأسطورية للسيدة التي تجمّع صف العرب بطريقة لم يبلغها سياسي ولا قائد، لا تنفي كونها إنسانة تثور وتغضب، وتقطع الغناء في حفل بنغازي وتصرخ في وجه أحد الحاضرين: “اخرس، قليل الأدب”، بعد أن تناهى إلى مسامعها كلمة بذيئة من أحد الحاضرين.

أمر مشابه يذكره الباحث على لسان الصحفي المصري “علي السمان” حول رحلة باريس، فقد أقامت السيدة “تحية كاظم” مأدبة عشاء احتفاء بنجاح حفلتي أم كلثوم في العاصمة الفرنسية، وخلال جلسة جمعتها والرئيس جمال عبد الناصر في تلك الليلة، أخبرته أم كلثوم أن السفير المصري، عبد المنعم النجار، لم يكن ضمن مستقبليها في مطار لو بورجيه، ووفقا لرواية علي السمان، فقد نُقِل السفير المصري بعد ذلك بأسابيع قليلة إلى الإدارة الثقافية في الخارجية، عقابا له على تقصيره في استقبال أم كلثوم.

ويُكمل السمان روايته، مؤكدا أن عبد الناصر لم يغضب من السفير حينما أهمل إرسال برقية له، مثل غيره من السفراء، يطلب منه عدم التنحي بعد الهزيمة، لكنه غضب لعدم تقديره للسيدة أم كلثوم، خصوصا أن الرحلة كانت بدافع وطني.

____________________________________________

المصادر:

(1) أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي – كريم جمال – دار تنمية للنشر

المصدر : الجزيرة

nexus slot

garansi kekalahan 100