جانباً لا يريد الفرنسيون إظهاره عن باريس.. هكذا تحتل ملايين الجرذان وأطنان القمامة “عاصمة الأنوار”

على ضفاف نهر السين، وعند سفح برج إيفل، حين يهمّ السياح برفع هواتفهم الذكية أو كاميراتهم لتوثيق بعض مظاهر السحر الباريسي، يصطدمون بواقع مغاير تماماً لذلك الذي كانوا يرونه على الملصقات والمواقع الترويجية.

ركام من النفايات يتناثر في الأزقة والأرصفة وحول النصب الأيقونة برج إيفل، ومئات الجرذان والفئران قرب المطاعم وأهم المزارات السياحية، فضلات الكلاب وروائح كريهة تنبعث من أهم الشوارع والقناطر.

وبينما تشرق الشمس على حافة جسر ميرابو، تتراءى العشرات من زجاجات الكحول، وبقايا احتفالات الليلة السابقة، تعيق حركة راكبي الدراجات وممارسي الرياضة.

وفي الساعة الثامنة صباحاً، وسط شارع لا بورت دو سيفر، تتناثر صناديق القمامة على الرصيف، جنباً إلى جنب مع قطع من الورق المقوى كان يفترشها بعضهم الليلة الماضية. تتقدم قليلاً، فتلقي أشجاراً استخدم سفحها خزانة لحفظ أثاث مهترئ.

ولا يُمكن للزائر الغريب عن باريس، عاصمة الأنوار، ألا يرى عشرات المشردين ومدمني المخدرات المتسكعين على جنبات الطرق وعند أبواب المتاحف والساحات العامة التي تُعتبر راقية في باريس.

حسب بلدية باريس، يتم جمع نحو 3000 طن من النفايات كل يوم، لكن أثر هذا غير بادٍ؛ إذ حسب عدد من الزوار والمقيمين ممن تحدث إليهم “عربي بوست”، فإن  مجهودات أكبر يجب أن تُبذل؛ لأن باريس تظهر في الحقيقة غير ما في الصور.

نفايات مكومة في منطقة Châtelet وسط باريس (خاص عربي بوست)
نفايات مكومة في منطقة Châtelet وسط باريس (خاص عربي بوست)

جرذان في عاصمة “الأنوار”

خلال السنوات الماضية، تضاعفت عمليات تدخل بلدية باريس ضد الجرذان بنحو 5000 عملية، بالإضافة إلى معالجة 200 حديقة و600 مبنى ضد الفئران، كما تم تغريم 140 شخصاً بتهمة “تغذية” القوارض، فيما تم استبدال 327 صندوق قمامة في الشوارع بحاويات محكمة الإغلاق.

من بين أسباب انتشار الفئران في عاصمة “الأنوار” الأمطار الغزيرة التي تعرفها كل سنة، إضافة إلى أشغال صيانة البنية التحتية، والتي أجبرت العديد من الفئران على مغادرة جحورها وأماكن عيشها المعتادة نحو المنازل المأهولة والشوارع والمتنزهات.

وتعرضت عمدة العاصمة الفرنسية باريس، آن هيدالغو، إلى انتقادات حادة بسبب انتشار القوارض في المدينة؛ الأمر الذي دفعها إلى التعهد بتشكيل مجموعة عمل حول “التعايش” مع هذه الحيوانات.

وقالت عمدة باريس ذلك من خلال تصريح لنائبتها المكلفة بالصحة العامة، آن سويري، خلال اجتماع سنة 2023، رداً على سؤال لعمدة الدائرة السابعة عشرة، جوفروي بولارد، هذا الأخير دعا إلى “خطة أكثر طموحاً لمحاربة انتشار الفئران”.

حسب المسؤولة، فإن هذه القوارض “لا ترتقي إلى أن تكون مشكلة صحية عامة”، على الرغم من أنها حاملة لبعض الأمراض. في المقابل، أقرت سويري بأنّ المرض يشكّل خطراً رئيسياً على جامعي القمامة الذين يمكن تطعيمهم باللقاحات المضادة.

مشكلة جرذان باريس ليست جديدة، وليست الوحيدة التي تسيء إلى سمعة المدينة الأكثر إقبالاً وزيارة من لدن السياح في العالم، فلطالما شكل انعدام النظافة وانتشار الأوساخ والقمامة في مدينة “الأنوار” مصدر قلق مستمر للمسؤولين المحليين.

وعلى الرغم من سَنّ عدد من التشريعات ومحاولات إعادة الهيكلة وتعزيز قسم الموارد البشرية، لا تزال شوارع وأزقة المدينة تعجّ بمظاهر الفوضى، كما تنتشر كميات كبيرة من النفايات وبقايا الطعام قرب الأماكن السياحية ووسط الأحياء الراقية..

انتشار الجرذان وسط العاصمة باريس (خاص عربي بوست)
انتشار الجرذان وسط العاصمة باريس (خاص عربي بوست)

نفايات وسط باريس

على بُعد مئات الأمتار من كنيسة القلب المقدس الشهيرة، تشكل قمامة المتاجر في حي دوجان مشكلة حقيقية بسبب ضيق مساحة المحلات التجارية؛ ما يضطر أصحابها إلى تكديسها بالخارج.

يقول أحد سكان الحي، الذين التقاهم “عربي بوست” وسط العاصمة باريس، إن ذلك “يجلب لنا كل أنواع الإزعاج، خاصة تكاثر الجرذان والفئران؛ لذلك بتنا نخشى على أنفسنا من الطاعون”.

وتواجه الأرصفة الباريسية أيضاً مشكلة مقلقة أخرى، هي فضلات الكلاب، حتى إن بعض السكان باتوا يضعون لافتات ساخرة للتنبيه إلى الظاهرة، كما هو الحال في الدائرة الـ19 حيث توجد لافتات كتب عليها “3.55 يورو للكيلو”.

يعمل في العاصمة 5000 جامع قمامة من عاملي النظافة، لكن هذا العدد لا يكفي بسبب حوادث العمل والإجازات المرضية، ووفق تقديرات جمعيات مدنية، قد يصل حجم ما يرفعه جامع القمامة من الحاويات يومياً إلى 8 أطنان.

وإذا كان بعض الناس يربطون ما آلت إليه “مدينة الأنوار” بسوء التسيير فإن آخرين يفسرونه بالسلوك الاستهلاكي “المفرط”؛ إذ بقدر ما يناضل الناس من أجل بيئة نظيفة، يزيد الإقبال على وجبات الطعام السريعة والملابس الجاهزة واقتناء عشرات الآلاف من الحُلي غير ذات القيمة المصنوعة غالباً في الصين؛ نتيجة لذلك وفق رأيهم، لم تعد طاقة حاويات القمامة الاستيعابية كافية.

يقول فرانك، وهو موظف متقاعد: “وصلت إلى باريس عام 1968، وكانت مدينة جميلة ونظيفة ومنظمة بشكل جيد، منذ تقاعدت عام 2013، لم تطأ قدماي باريس مرة أخرى”.

وأضاف المتحدث: “لقد باتت قذرة للغاية، تنظيم سيئ، دون الحديث عن الأحياء التي لا يمكن الوصول إليها. عندما وصلت إلى باريس كنت أخرج للتسكع في أي وقت وفي جميع أحياء باريس، اليوم لن أعود أبداً إلى باريس”.

ترقيع ساحة الكونكورد، المتوقع أن تستضيف أولمبياد باريس (خاص عربي بوست)
ترقيع ساحة الكونكورد، المتوقع أن تستضيف أولمبياد باريس (خاص عربي بوست)

النظافة في باريس.. مشكلة تاريخية

العاصمة تحتاج حملة تنظيف كبيرة، أو هذا على الأقل ما يعتقده 84٪ من سكان العاصمة، بحسب استطلاع أجرته مؤسسة Ifop، شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021. تم إجراء الدراسة بتكليف من الاتحاد الباريسي (UP!)، والذي يضم عدة جمعيات تنتقد العمدة آن هيدالغو، انبثق عن حركة #SaccageParis.

ووفقاً للاستطلاع، فإن سكان أحياء الطبقة العاملة هم الأكثر سخطاً: 90٪ من سكان شمال شرق العاصمة (الأحياء 18 ، 19 ، 9 ، 10) يشتكون من انتشار الأوساخ، مقابل 74٪ من سكان شمال شرق العاصمة.

تذكر سكان العاصمة وإقرارهم بانعدام النظافة ليس حديثاً، ولكنه قديم يمتد إلى عشرات السنين، كما يوضح استطلاع رأي، أُجري سنة 1974، أن 82٪ غير راضين عن مستوى النظافة، في مقابل 53٪ وجدوا المدينة قذرة عام 1991، خلال حكم جاك شيراك.

وحسب أرشيفات مؤسسة INA الإعلامية؛ لم يكن الباريسيون راضين تماماً عن حالة مدينتهم سنة 1965.

المتشردون يملؤون جنبات شارع اللوفر (خاص عربي بوست)
المتشردون يملؤون جنبات شارع اللوفر (خاص عربي بوست)

من المسؤول؟

حسب كولومب بروسل، نائب العمدة المكلف بقطاع النظافة، فإن “النفايات لا تلقى على الأرض بشكل سحري؛ لذلك يجب أن يكون لدى كل منا سلوك ورد فعل للحفاظ على نظافة هذه المدينة”.

من جهة أخرى، سبق للمسؤول أن تحدث عن مبادرة من أجل تلقين “أساليب الوقاية والتعبير اللفظي” تفاعلاً مع ارتفاع نسب العنف اللفظي في العاصمة، وفي سنة 2023 تم إصدار أكثر من مليون ونصف المليون غرامة من قبل شرطة البلدية، 5٪ منها كانت جزءاً من مكافحة “السلوكيات السيئة”.

يواصل مجلس المدينة الآن تشديد سياسته في هذا المجال، لدرجة دعوته إلى تغريم المدخنين الذين يرمون أعقاب السجائر على الأرض، مبلغاً قدره 135 يورو.

ففي باريس، تجمع شركات النظافة 4.5 مليون عقب سيجارة يومياً، أو 350 طناً كل عام.

تعتمد المدينة أيضاً على سلاح آخر لمحاربة السلوكات “اللاحضارية”: في كل منطقة، تتدخل ألوية “النظافة الطارئة” لإزالة أثاث المنازل والشقق بمجرد إعداد تقرير حول ماهيته، بأسرع ما يمكن؛ إذ يوجد في العاصمة بأكملها أقل بقليل من 200 موظف للقيام بهذه المهمة.

تيري، شاب باريسي له رأي آخر، يرى أن “مخيمات المهاجرين في بعض أحياء شمال شرق باريس باتت تشوّه منظر المدينة، زيادة على أنها توجد بالقرب من مكب نفايات. هذا إلى جانب أعمال الحفر والبناء أسفل الأرض، ما يفسر انتشار الفئران”.

يضيف تيري محملاً البلدية المسؤولية فيقول إن “المسؤولين في مجلس المدينة انشغلوا بالقوانين والتشريعات أكثر من الاهتمام بالميدان ومعالجة المشاكل على أرض الواقع”.

ما ذكره تيري، يتقاسمه كثير من سكان باريس؛ إذ يرون أن العاصمة أصبحت الثمرة الفاسدة لسوء التدبير الاجتماعي والبيئي لأكثر من 20 عاماً.

nexus slot

garansi kekalahan 100