هل خسر ماكرون الرهان على الجزائر؟

في نهاية أغسطس/ آب الماضي، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، وتوصّل صحبة نظيره الجزائري عبد المجيد تبون إلى إبرام “إعلان الجزائر”، وفيه تمَّ تأكيد قرار البلدَين “تدشين حقبة جديدة من العلاقات الشاملة التي تجمعهما، عبر إرساء أُسُس شراكة متجددة، يتم تجسيدها من خلال نهج ملموس وبناء موجّه نحو المشاريع المستقبلية وفئة الشباب، بما يسمح بتحرير إمكانات تعاونهما وبما يتماشى مع تطلُّعات شعبيهما”.

بمقتضى الإعلان، تمَّ الاتفاق أيضًا على إنشاء “مجلس أعلى للتعاون” على مستوى الرؤساء، “من أجل تعميق وصياغة الاستجابات الملائمة والمتبادلة للقضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، في روح من الثقة والاحترام المتبادَلين”، كما تمَّ التوصل إلى اتفاقات أمنية عُدّت تاريخية.

بعد نحو شهر ونصف من تلك الزيارة، حلت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن ضيفة على الجزائر -رفقة 16 وزيرًا وهو ما يعادل نصف الحكومة-، مشيدة بالشراكة المتجددة والدائمة، وفق وصفها، بين البلدَين، ما يعني أن تقدمًا كبيرًا حصل في ملف المصالحة بين فرنسا والجزائر.

وخلال هذه الزيارة تمَّ توقيع 12 اتفاقية، تضمّنت “إعلانات نوايا” بشأن العمالة والتعاون الصناعي والسياحة والأعمال الحرفية والإعاقة، فضلًا عن اتفاقية شراكة في المجال الزراعي ومذكرة اتفاق بشأن الشركات الناشئة.

كشفت هذه الزيارات المتتالية سعي الإليزيه لضمان ودّ قصر المرادية، خاصة بعد توتر العلاقات بين باريس والرباط، ورهان ماكرون على الجزائر لتحقيق العديد من المكاسب أوروبيًّا وأفريقيًّا، ناهيك عن المكاسب الداخلية، فالجزائر عنصر مهم للسياسات الفرنسية.

رهان ماكرون على الجزائر

راهن الرئيس ماكرون كثيرًا على الجزائر، وعمل على إصلاح العلاقات معها بعد التوتر الذي حدث في سبتمبر/ أيلول 2021، نتيجة تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830، متسائلًا: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”.

رأى ماكرون أن عداء الجزائر لن يخدم مصالح فرنسا الداخلية والخارجية لأسباب عديدة، لذلك عمل على ترسيخ التعاون مع هذا البلد العربي حتى يكون حليفًا قويًّا في أفريقيا ومنطقة الساحل، لما تتمتّع به الجزائر هناك من نفوذ قوي تمكّنت من فرضه نتيجة عمل سنوات.

من المرتقب أن تعمل فرنسا على تطوير علاقاتها المتوترة بالمغرب، حتى لا تخسر كامل نفوذها في شمال أفريقيا والقارة السمراء ككل.

ظنَّ ماكرون أن الجزائر يمكن أن تكون مفتاح فرنسا للسيطرة على الوضع هناك، في ظل الصفعات المتتالية التي تلقاها الإليزيه في أفريقيا وطرد الجنود الفرنسيين من مالي، ودخول أطراف إقليمية جديدة على خط المنافسة وارتفاع أصوات الأفارقة الرافضين لفرنسا.

في الأشهر الأخيرة، راهن ماكرون على الجزائر للاستفادة مجددًا من خدماتها الأمنية والاجتماعية، حتى لا تخسر فرنسا ما تبقّى لها من نفوذ في منطقة الساحل والصحراء لفائدة خصوم جدد، ونعني بالأساس روسيا التي أثقلت كاهل الفرنسيين.

رهان ماكرون على الجزائر لم يقتصر على الجانب الأمني وملف النفوذ في أفريقيا خصوصًا منطقة الصحراء، إنما راهن عليها أيضًا لمساعدته على استعادة القيادة الأوروبية التي اُنتزعت من قصر الإليزيه، وذلك عبر ملف الغاز.

أراد الرئيس الفرنسي من خلال تطوير العلاقات مع الجزائر ضمان كميات إضافية من الغاز الجزائري لأوروبا، في ظلّ عجز الغرب عن إيجاد بديل واضح للغاز الروسي، خاصة أن الجزائر تمتلك احتياطات مثبتة من الغاز الطبيعي تقدَّر بنحو 2400 مليار متر مكعب، وهو رقم ضخم، وتمدّ الدولة العربية الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب العابرة للبحر الأبيض المتوسط وفي ناقلات الغاز الطبيعي المسال.

في حال أقنع الجزائريين بمدّ الأوروبيين بكميات إضافية من الغاز والتخلص من التبعية للغاز الروسي، سيتمكن ماكرون من تبييض صورته أوروبيًّا والظهور في ثوب القائد الباحث عن مصالح دول الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل في ذلك وتمكنت روما من الأمر عوضًا عنه.

كان ماكرون يراهن على تحسين العلاقات مع الجزائر، لإنقاذ اقتصاد بلاده المتعثّر وضمان امتيازات جديدة في اقتصاد الجزائر الباحث عن تنويع مصادر دخله، فالاقتصاد الفرنسي يعرف مشاكل كبرى وليس من مصلحته أن تتواصل المشاكل السياسية مع الجزائر، إذ سبق أن قرر نظام تبون تضييق الخناق على الشركات الفرنسية العاملة فوق الأراضي الجزائرية.

خسارة الرهان

من البداية، كان ماكرون يعلم أن الرهان على الجزائر وتحقيق تقارب مع نظام عبد المجيد تبون ليس مضمون النتائج، ومع ذلك واصل خطته، ما انعكس سلبًا على علاقات باريس مع الرباط التي تضررت كثيرًا في الأشهر الأخيرة.

خسر ماكرون حليفًا مهمًّا في شمال أفريقيا، ونعني بذلك المملكة المغربية، كما خسر أيضًا الرهان مع الجزائر ويظهر ذلك من خلال العديد من المؤشرات، أبرزها الزيارة الأخيرة للرئيس تبون إلى روسيا، في الوقت الذي كان من المنتظر أن يزور فيه تبون باريس أو أن يصدر بيانًا رسميًّا بشأن الزيارة المرتقبة له إلى فرنسا، التي كانت مقررة في النصف الثاني من يونيو/ حزيران.

إلا أن الرئيس الجزائري حلَّ ضيفًا على نظيره الروسي في زيارة تدوم 3 أيام، بحسب ما أعلنت الرئاسة الجزائرية، ما يعني أن العلاقات مع روسيا ستشهد تطورًا أكبر، فيما ستعرف العلاقات مع فرنسا تدهورًا إضافيًّا.

ليس هذا فحسب، ففي الوقت الذي كان ماكرون ينتظر فيه إبرام اتفاقيات جديدة مع الجزائر لتنمية اقتصاد فرنسا، أعلنت الجزائر “الشراكة العميقة” مع روسيا، ما سيعطي “آفاقًا جديدة خاصة بتنويع التعاون الاقتصادي، ليشمل مجالات متنوعة كالطاقة والزراعة والأمن السيبراني والتعليم والثقافة والسياحة”.

ويعني ذلك أيضًا وضع الروس قدمًا أخرى في الجزائر وفي أفريقيا ككل، ما يؤكد أن الرهان على الجزائر لفتح أبواب منطقة الساحل باء بالفشل، ورجع بالسلب على قصر الإليزيه الغارق في المشاكل الداخلية والخارجية.

يعوق ملف الذاكرة أي تقدم في العلاقات الفرنسية الجزائرية، أما العلاقات المغربية الفرنسية فلا يوجد ملف كبير يعوقها.

ما يؤكد فشل الرهان على الجزائر أيضًا، قرار نظام تبون إعادة مقطع من نشيد البلاد الوطني يحمل عبارات تتوعّد مستعمرها السابق، فرنسا، بـ”الحساب” بعد أن حذفته قبل عقود، ويذكر النشيد الجزائري في مقطعه الثالث فرنسا بعبارات تعتبرها أطراف فرنسية حاملة لنبرة العداء والتهديد، وسبق أن طالبت بسحبها في القرن الماضي.

ويقول المقطع الذي ألّفه الشاعر الجزائري مفدي زكريا، خلال فترة سجنه إبّان الاستعمار الفرنسي: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر، فاشهدوا.. فاشهدوا”.

خطط فرنسا البديلة

في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي تعرفها المنطقة وخسارة الرهان على الجزائر، من المرتقب أن تعمل فرنسا على تطوير علاقاتها المتوترة بالمغرب، حتى لا تخسر كامل نفوذها في شمال أفريقيا والقارة السمراء ككل.

تعلم باريس أن الرباط يمكنها أن تقوم بنفس أدوار الجزائر، لما تتمتع به من قوة ونفوذ وأوراق ضغط كثيرة، ما يفرض عليها ضرورة التقرب مجددًا من النظام الملكي هناك، وتعويض الخسائر السابقة التي نتجت عن هذا التوتر، خاصة أن إصلاح العلاقات مع الرباط أسهل من إصلاح العلاقات مع الجزائر.

يعوق ملف الذاكرة أي تقدم في العلاقات الفرنسية الجزائرية، أما العلاقات المغربية الفرنسية فلا يوجد ملف كبير يعوقها، إنما توجد بعض الملفات الثانوية كملف التأشيرات وحقوق الإنسان التي يمكن حلّها بسرعة إن وُجدت إرادة لذلك.

سنشاهد في الفترة المقبلة هرولة فرنسية نحو المغرب لوضع حدّ لتدهور العلاقات مع الرباط، خاصة أن العديد من القوى الدولية والإقليمية تنافسها على النفوذ في منطقة عُرفت تاريخيًّا بتبعيتها لباريس، لكن ليس من السهل أن تقبل الرباط بالأمر، فالفرصة مواتية أمامها لانتزاع اعتراف فرنسي مباشر بمغربية الصحراء الغربية، ما يضع فرنسا مجددًا تحت فوهة البركان.

nexus slot

garansi kekalahan 100