أغنى الأراضي وأفقر الشعوب.. لماذا تُعد إفريقيا ساحة القتال المفضلة للقوى العظمى على مر التاريخ؟

بدأ استكشاف إفريقيا عن طريق القوى الغربية بداية من القرن الخامس عشر وما تلاه، ومَثَّل هذا بداية التاريخ المؤسف لإفريقيا. وصل الرق، وهو نظام ما بين القبائل وُجد بصفة خاصة في وسط وجنوب إفريقيا، إلى ذروته مع تصدير العبيد عقب وصول الأوروبيين إلى القارة.

وصارت تجارة الرقيق وتصدير الرقيق أكبر مصدر للقوة العاملة التي احتاجتها أوروبا في هذه المرحلة الزمنية. تحديداً في القرن التاسع عشر، صار استعمار إفريقيا، التي كانت خاضعة للسياسات الإمبريالية للغربيين، ذا طابع مؤسسي بدرجة أكبر مع فهمٍ “يُدَّعى أنه (فهمٌ) علميٌ”. ولن يكون من الخطأ أن نقول إن علم الأنثروبولوجيا خدم تجارة الرقيق والكولونيالية في القرن التاسع عشر. وبالمثل، كانت نظرية التطور لداروين واحدة من الأدوات الوحيدة التي استخدمت لشرعنة الرق. ومع ذلك، يمنحنا تفرد إفريقيا معاني أعمق في العملية التي سبقت الحرب العالمية الأولى.

في التاريخ الحديث، تُعد إفريقيا أكبر منطقة تقاتلت فيها القوى العظمى في العالم من أجل السلطة. صحيحٌ أن الشرق الأوسط وشرق آسيا يحملان صفات مماثلة، لكن إفريقيا بمواردها والكولونيالية المؤسسية والتاريخية، تبرز فوق الجميع في هذا الصدد.

في التاريخ الحديث، تُعد إفريقيا أكبر منطقة تقاتلت فيها القوى العظمى في العالم من أجل السلطة. صحيحٌ أن الشرق الأوسط وشرق آسيا يحملان صفات مماثلة، لكن إفريقيا بمواردها والكولونيالية المؤسسية والتاريخية، تبرز فوق الجميع في هذا الصدد.

في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، صارت إفريقيا رقعة شطرنج بالنسبة للقوى العظمى، وعلاوة على ذلك، كانت أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب. إذ إن الحقيقة التي تشير إلى أن ألمانيا -التي تمكنت من تحقيق التوحيد، وإن كان متأخراً، وبرغم جهود فرنسا لمنع ذلك- دخلت إفريقيا بعد وقت طويل من دخول بريطانيا وفرنسا، دفعتها لانتهاج سياسات أشد عدوانية.

دخلت ألمانيا، التي تمكنت من افتتاح عصر كولونيالي في وسط إفريقيا -وإن كان صغيراً- في صراع على الموارد مع فرنسا، عندما كانت المواد الخام التي حصلت عليها من هناك غير كافية لإنتاجها الصناعي، فاندلعت الحرب بهذه الطريقة. كانت إفريقيا مدمرة بوصفها مسرح الصراع بين الأطراف الفاعلة في النظام الدولي لذلك الوقت “نظام القوة العظمى”، وخاضعة لاستغلال شديد بوصفها المكان الذي يمدهم بالمواد الخام والموارد التي يحتاجونها في هذا الصراع.

 هل يمكننا أن نقول إن محنة إفريقيا هذه تفرض نفسها اليوم؟

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، نتج عن عملية إنهاء الاستعمار استقلال البلاد المستعمرة في العالم. وطالت رياح التغيير في عالم ما بعد الحرب، البلاد الإفريقية أيضاً، وتأسست كثير من الدول في القارة. ومع ذلك، لم تحقق عملية إنهاء الاستعمار في إفريقيا نجاحاً تاماً. ظلت إفريقيا معتمدة اقتصادياً وسياسياً على مستعمريها السابقين ولا تزال تعاني من آلام عملية إنهاء الاستعمار. ومع ذلك، ليس هذا هو الموقف الوحيد. فمع أن إفريقيا كانت خاضعة للسياسات الاستعمارية الجديدة (أو ما تعرف بسياسات النيوكولونيالية) للمستعمرين السابقين، مثل بريطانيا وفرنسا، صارت أيضاً منطقة تنافس بمشاركة القوى العالمية. في هذا الصدد، ليست حوادث الإرهاب الحديثة، وانعدام الاستقرار، والانقلابات العسكرية في إفريقيا سبباً، بل إنها نتيجة للفوضى التي أنتجها هذا الصراع على السلطة. ثمة قول مأثور باللغة السواحيلية الإفريقية يفسر موقف إفريقيا نفسها: “wapiganapo tembo nyasi huumia”، ويعني: “عندما تتقاتل الفيلة، يتضرر العشب”.

في هذا الجزء من مقالي، سوف أحاول أن أكشف الموقف الحالي عن طريق التعرض للقوى العظمى في إفريقيا واحدة تلو الأخرى.

إفريقيا

ومن الملائم أن نبدأ بوجود فرنسا في إفريقيا. فرنسا هي على الأرجح الدولة الأعلى نفوذاً في إفريقيا، خلال حقبتي الكولونيالية والنيوكولونيالية. لا يزال استعمار فرنسا لإفريقيا مستمراً في الوقت الراهن بطرق عدة. يعد الفرنك الإفريقي، وهو العملة التي استحدثتها فرنسا لـ14 بلداً إفريقياً، الأداة الأكثر نجاعة التي تستخدمها فرنسا للمحافظة على هذه العلاقة الاستعمارية.

والسبب أن فرنسا تعاقب البلاد التي تريد مغادرة نظام الفرنك الإفريقي بطرقٍ عدةٍ، مثل الانقلابات والعمليات غير القانونية وتعيد دمجها في هذا النظام. وفي نفس الوقت، تفرض فرنسا على هذه البلاد أن تحتفظ بما لا يقل عن 50% من احتياطي عملتها في فرنسا، من أجل أن تضمن الاستقرار الاقتصادي في هذه البلاد. بعبارة أخرى، تذهب نصف الأرباح، التي تدخل هذه البلاد، إلى فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، يتواصل استغلال فرنسا للموارد بنفس الطريقة. تسيطر فرنسا على مناجم اليورانيوم في النيجر، وهو آخر بلد إفريقي يشهد انقلاباً عسكرياً، وسابع أكبر منتج لليورانيوم على مستوى العالم.

بالنظر إلى أن 70% من الكهرباء في فرنسا تتوفر من خلال الطاقة النووية، أي اليورانيوم، وأن فرنسا كانت أقل البلاد الأوروبية التي تأثرت بأزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، فيسهل استيعاب السبب في أن فرنسا تعاني بشدة مع الانقلاب في النيجر. وفي ضوء كل هذه الأمور، يمكن القول إن فرنسا هي الدولة الأعلى نفوذاً في غرب إفريقيا حتى الآن، لكن هذه المكانة تبدأ في التراجع بشدة. ينبغي التعرض أيضاً هنا لتأثير الأشخاص ذوي الأصول الإفريقية الذين يعيشون في فرنسا. فهذه قضية تربط أيادي فرنسا بسياساتها الإفريقية. ينبغي لفرنسا أن تكون أشد حرصاً بكثير في تدخلاتها في إفريقيا، وأن تأخذ في الحسبان الثورات التي قد تندلع في أراضي فرنسا ذاتها.

صحيحٌ أنها ليست بقدر الوضوح الذي تبدو عليه فرنسا، لكن بريطانيا اتخذت هي الأخرى عديداً من الخطوات للدفاع عن مصالحها في إفريقيا. بوصفها مستعمرة بريطانية سابقة، يمكن تفسير موقف نيجيريا الصارم تجاه الانقلاب المشهود في النيجر، عبر نفوذ بريطانيا هناك. وبرغم ذلك، وفي نفس الوقت، تشجع القوى الغربية الأخرى نيجيريا في هذا الصدد. يُعزى هذا إلى وجود مشروع لنقل الغاز الطبيعي والموارد النفطية في نيجيريا، إلى أوروبا. توشك نيجيريا أن تنفذ مشروعاً لنقل الطاقة سوف يصل إلى الجزائر عبر النيجر، ومن هناك سيصل إلى أوروبا. لا يقتصر الأمر على كون هذا المشروع يسهم إسهاماً كبيراً في اقتصاد نيجيريا وحسب، بل سيكون أيضاً شريان حياة بالنسبة للبلاد الأوروبية التي تريد أن تحدّ من اعتمادها على الطاقة من روسيا. وهذا هو السبب في أن نيجيريا والقوى الغربية تريد صورةً من النيجر -وغرب إفريقيا- تكون مستقرةً بقدر الإمكان، وتنصت إليهم.

عندما ننظر إلى روسيا، نجد أن لها حضوراً في إفريقيا عبر مجموعة “فاغنر”، التي تعدّ في واقع الأمر شركة عسكرية خاصة، لكنها من اتجاه ما يمكن اعتبارها وكيلة لروسيا. سُحبت فاغنر من مسرح العمليات في أوكرانيا في الأشهر الأخيرة، بعد حركة تمرد. وبرغم ذلك، أعيد تجميع هذه القوات بعد ذلك على الفور، وجرى توجيهها نحو إفريقيا. الأرجح أن “صفح” بوتين عن فاغنر، كان مدفوعاً بالحقيقة التي تقول إنه لم يستطع أن يعثر على طرف فاعل أفضل من فاغنر لمواصلة السياسات الروسية في إفريقيا. فعلى أحد الجوانب، تُستخدم فاغنر في إفريقيا، لا سيما في حماية مناجم الماس، وعلى الجانب الآخر، يريد بوتين إفساح مجال أمام روسيا عن طريق نشر الدعاية المؤيدة لروسيا في المنطقة. وليس من قبيل المصادفة أن الناس في الانقلابات الأخيرة يهتفون بشعارات مؤيدة لروسيا جنباً إلى جنبٍ مع الشعارات المؤيدة للانقلاب. لكن روسيا لم تصل بعد إلى نفس درجة النفوذ الخاصة بالقوى العالمية الأخرى في إفريقيا، ويُعزى هذا إلى كلٍّ من افتقارها إلى ماضٍ استعماريٍّ (بغض النظر عن نفوذها خلال حقبة الاتحاد السوفييتي)، وأيضاً لأنها لم تتمكن بعد من ترسيخ وجود ملموس لها في المنطقة بعيداً عن فاغنر.

ومثلما هو متوقع، كانت الصين الدولة الأعلى نفوذاً في إفريقيا في السنوات الأخيرة. فهذا “النمر الواثب” استحوذ على إفريقيا استحواذاً شبه كلي تحت مخالبه. وصلت استثمارات الصين في إفريقيا الآن إلى 300 مليار دولار أمريكي. وفي هذا الصدد، تعد الصين أكبر من فرنسا بعشر مرات. لكن استراتيجية الصين في إفريقيا ذات مدى أطول بكثير. أولاً، تجعل الصين البلاد الإفريقية مدينة لها عبر الاستثمارات. في النظام النيوليبرالي، يعد هذا مسمى آخر للكولونيالية. تصير البلاد المقترضة معتمدة عليك، وتصير مذعنة لك. ثانياً، في إفريقيا، مثلما هو الحال في مناطق أخرى، تستخدم الصين العمالة الصينية في استثماراتها.

وبهذه الطريقة، تفوز مرتين. لأنها عندما تفعل ذلك، فإنها من جانبٍ تنقل سكانها إلى إفريقيا، وتخلق “مجال نفوذ اجتماعي” هناك، وعلى الجانب الآخر تعيد التكاليف الثابتة للاستثمارات إلى بلادها في صورة أجور العمال. ليست تحركات الصين في إفريقيا اقتصادية وحسب. تبني الصين أيضاً قدرات “قوة ناعمة” في إفريقيا عن طريق إرسال الشباب الأفارقة للدراسة في الصين، فتعلمهم اللغة الصينية من ناحية، وتفعل ذلك عبر معاهد كونفوشيوس والمؤسسات الأخرى من ناحية أخرى. وهذا هو أكبر دليل على أن سياسات الصين في إفريقيا طويلة المدى.

يمكننا القول إن تزايد نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا أدى إلى مساعي الولايات المتحدة لإيجاد توازن في المنطقة. العلاقة بين الولايات المتحدة وإفريقيا، التي كانت ذات توجه اقتصادي، بدأت في التطور عسكرياً بعد أن صارت الصين وروسيا أكثر نشاطاً في إفريقيا. لم تشعر الولايات المتحدة بالحاجة إلى استثمار حقيقي في إفريقيا، فيما عدا شراء النفط والغاز الطبيعي من نيجيريا والسودان، وتسويق الأسلحة إلى إفريقيا. ومع ذلك، تراجعت العلاقات مؤخراً على الصعيد الاقتصادي، وازدادت على الصعيد العسكري. لدى الولايات المتحدة ما يقرب من 6000 من أفراد الجيش في 50 بلداً من أصل 54 بلداً إفريقياً. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة، من خلال قمة قادة الولايات المتحدة وإفريقيا، تحاول إقامة علاقات وثيقة مع الحكومات الإفريقية. في واقع الأمر، يجب أن يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها كتلة غربية مع فرنسا والمملكة المتحدة. فمن المعروف أن الولايات المتحدة تحركت مع المملكة المتحدة وفرنسا في العملية ضد الانقلاب في النيجر، الذي يُزعم أنها خُططت عبر المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس).

من منظور واقعي، تتحرك كل القوى العظمى بما يتماشى مع مصالحها في إفريقيا، التي يُنظر إليها على أنها خطيرةٌ لأنها مرتعٌ للجماعات الإرهابية من جانب، ولأنها تغذي الهجرة إلى أوروبا من جانب آخر. في الوقت ذاته، يقدم الصراع على النفوذ في إفريقيا، الذي تحوَّل إلى سباق، مظهر قنبلة تستعد للانفجار بينما تجذب إليها كل القوى العالمية. ومثلما هو الحال في المثال الذي ضربته في الأعلى، يشبه الموقف الحالي في إفريقيا الموقف قبل الحرب العالمية الأولى.

تضع القوى العظمى سياسات دون الاكتراث بمصالح الشعوب في إفريقيا، من أجل أن تحصل على قطعة من الكعكة، وأيضاً كي تُعادل منافسيها. هذه السياسات تؤدي إلى مزيد من زعزعة استقرار منطقة هي بالفعل غير مستقرة، وتعمق التوزيع غير العادل للموارد. وهذه المشكلات تدفع المجتمعات الإفريقية إلى السعي وراء تحقيق العدالة (أو الربح) بطرقها الخاصة. وأحياناً يعبر هذا عن نفسه عبر الانقلابات العسكرية، وأحياناً أخرى عبر التنظيمات الإرهابية. وبكل أسف، يضع هذا إفريقيا في موقف فريد: أغنى الأراضي، لكنها أفقر المجتمعات في العالم.

المصدر : عربي بوست

nexus slot

garansi kekalahan 100